بقلم: دكتور زاهي حواس
تحدثنا فى المقال السابق عن جزء من الاكتشافات الأثرية التى أعلنّا عنها يوم الثامن من شهر يناير الجارى. وقد انتهى بنا الحديث إلى ترجمة النص المكتوب بالخط الهيروغليفى (النقش المقدس) على اللوح الجنائزى، الذى أهداه المدعو جحوتى مس، المشرف على قصر الملكة تتى شيرى، إلى روح صديقه، رئيس قائدى العجلات الحربية، مين نخت. وذلك فى العام التاسع من حكم الملك أحمس، طارد الهكسوس من مصر، مؤسس الأسرة الثامنة عشرة، بداية العصر الذهبى للحضارة المصرية القديمة. بالطبع لم يصدق علماء الآثار فى العالم كله أنفسهم وهم يسمعون تلك الأنباء وهذه المعلومات الدقيقة والمؤرخة بكل وضوح عن عصر من أهم عصور الحضارة المصرية، وأقلها كذلك من حيث عدد المصادر المعاصرة لهذا الزمن، وهو ما بين ١٥٥٠ قبل الميلاد و١٥٢٥ قبل الميلاد، والذى يمثل فترة جلوس الملك أحمس على عرش مصر؛ لذلك كان لابد من نشر صور اللوحة الجنائزية وباقى مكتشفات مقبرة نخت مين، المهدى إليه اللوحة من صديقه، جحوتى مس.
وبعيدًا عن الأهمية التاريخية والأثرية لذلك الكشف، فإنه يؤكد للعالم كله كم كانت مصر دولة متحضرة ومجتمعًا راقيًا يعرف أسمى معانى الصداقة والوفاء، ففى الوقت الذى كتب فيه جحوتى مس أنه يهدى تلك اللوحة الجنائزية وما تحمله من صيغ تقديم القرابين إلى روح صديقه لكى يجعل اسمه وذكراه تحيا لملايين السنين، كانت أوروبا فى ذلك العصر تعيش عصور ما قبل التاريخ، الذى لن تدخله سوى فى القرن السابع قبل الميلاد عندما بدأت الأبجدية الفينيقية تنتشر فى أوروبا، أى بعد وفاة جحوتى مس بأكثر من ثمانية قرون.
ننتقل بعد ذلك إلى ما كشفنا عنه من عدد كبير من الأختام الجنائزية، وهى عبارة عن أختام قُمعية الشكل من الفخار المحروق، وتحمل قاعدة الختم دائرية النص، الذى يحمل اسم وصفة صاحب الختم، ويُكتب عادة فى ثلاثة أسطر، إما أفقية أو رأسية. والحقيقة أن ما تم العثور عليه من أختام يعود إلى نهاية الأسرة السابعة عشرة وبداية الأسرة الثامنة عشرة فى الجزء الواقع أسفل أرضية معبد الوادى للملكة حتشبسوت يؤكد ما توصلنا إليه من قيام المهندس المعمارى سننموت من غلق للجبانة العتيقة وردمها وتخصيص موقعها لبناء معبد الوادى والطريق الصاعد لمعبد حتشبسوت بالدير البحرى. ومن أهم الأختام التى عثرنا عليها ختم مكسور تبقى جزء كبير من النص المنقوش عليه. يذكر النص أن صاحب الختم يُدعى جحوتى، (غير جحوتى مس السابق ذكره)، وكان هو الكاهن الأول للإله آمون فى عصر الملك أحمس. وهناك عدد قليل من نماذج هذا الختم تم الكشف عنها من قبل، حيث تؤكد المراجع الأثرية أن مقبرة هذا الكاهن لم يتم الكشف عنها إلى الآن، وكان المقترح أنها ربما تكون فى منطقة دراع أبوالنجا، وهى المنطقة الواقعة شمال الموقع الذى أقوم فيه بالحفائر، ومن المحتمل أيضًا أن نكون قريبين من الكشف عن مقبرة ذلك الرجل.
ويُعد الكشف عن عدد من أبيار الدفن من الأسرة السابعة عشرة من أعظم الاكتشافات التى بدأت تثرى معلوماتنا عن تلك الأسرة المكافحة، التى حملت عبء الكفاح المسلح ضد الهكسوس المحتلين. وفى تلك الأبيار وصلنا إلى غرف الدفن الخاصة بأفراد الطبقة الوسطى، وتم العثور على التوابيت، التى تُعرف فى المراجع العلمية بالتوابيت الريشية نظرًا لكون رسوماتها غالبًا ما تصور أجنحة الآلهة، وهى تحيط بالتابوت، وكأنها تحتضن المتوفى، وتصبغ عليه الحماية من مخاطر وأهوال العالم الآخر. ومن تلك التوابيت تابوت لطفل صغير، لا يتعدى طول التابوت المتر الواحد، وقد وُجد مغلقًا، ويلتف حول الرقبة والقدمين حبل يُستخدم كيد أو حمالة لحمل التابوت منه. هذه التوابيت جميعها مصنوعة من الأخشاب المحلية مثل خشب الجميز والسنط، وما عُثر عليه من عتاد جنائزى بسيط للغاية من أقواس وسهام وآلات لغزل النسيج وأوانٍ فخارية وحصر من نبات الحلف. إن بساطة العتاد الجنائزى تعطينا فكرة جيدة عن المستوى المعيشى والطبقى لهؤلاء الذين دُفنوا فى ذلك الجزء من الجبانة، وكذلك تعكس حالة اقتصاد دولة كانت وقتها محتلة ولأكثر من ١٠٠ سنة. والمُلاحَظ فى دفنات الأسرة السابعة عشرة هو كثرة ما يُعرف بالتوابيت النذرية للإله أوزير، وهى توابيت صغيرة لا تتعدى ١٤ سنتيمترًا من الخشب أو الطين، وتحمل نقوشًا نذرية، وأحد هذه التوابيت كُتب عليه بالخط الهيراطيقى أنه من ابن الملك. وفى عدد من دفنات الأطفال التى تعود إلى نهاية الأسرة السابعة عشرة وبداية الأسرة الثامنة عشرة تم العثور على دفنات سطحية لأطفال صغار وبها دمى بسيطة رائعة الجمال من الخار المحروق (التراكوتا)، تمثل كل ما تبقى من عتاد جنائزى لهؤلاء الأطفال.
وفى العام الماضى قمنا بنقل أقدم سرير من الخشب والحصير المجدول يُكشف عنه فى مصر إلى متحف الحضارة لكى يُعرض به نظرًا لأنه أثر نادر وفريد يعود إلى أواخر الأسرة السابعة عشرة وبداية الأسرة الثامنة عشرة. لقد عُثر على السرير ومعه إناء فخارى لشرب الماء داخل حجرة منحوتة فى الجبل، ومدخلها عبارة عن ثلاث درجات سلم منحوتة فى الصخر الطبيعى، ونظرًا لموقع الحجرة عند مدخل الجبانة وعدم وجود أى إشارة لاستخدامها فى الدفن فلقد وصفناها بأنها غرفة لحراس الجبانة الذين يعملون بالتناوب.
وإذا تركنا الأسرة السابعة عشرة وتوغلنا أكثر فى تاريخ الموقع فسوف نتأكد أنه يعود إلى الدولة الوسطى، وذلك بناءً على المكتشفات التى قمنا بها، وأهمها الكشف عن تلك المقبرة الضخمة التى تعود إلى الأسرة الثانية عشرة، وبعد تدمير معبد حتشبسوت الذى كان يخفيها تمت إعادة فتح المقبرة واستخدامها مرة أخرى خلال العصر البطلمى، حيث تمت العديد من أعمال الإضافات وحفر العديد من حجرات الدفن بها حتى صارت المقبرة كقصر التيه. ومن الدفنة الرئيسية بالمقبرة تم العثور على مجموعة مميزة من موائد القرابين الضخمة التى على شكل حدوة الفرس والمصنوعة من الفخار وعليها تجسيد للقرابين التى يرغب فيها المتوفى من لحوم ورؤوس عجول وخبز وجعة. هذه الموائد هى ميزة من مميزات الأسرة الثانية عشرة يعرفها كل أثرى ولا يمكن أن يخطئها. كما تم العثور على قاعدة تمثال واقف لموظف يُدعى مونتو أوسر وعليه نقوش تقديم القرابين.
لا يمكن لأحد أن يتصور المجهود الكبير والتكلفة المرتفعة التى تكبدها المهندس المعمارى سننموت من خزانة الدولة لكى يقوم بتمهيد الموقع وردم جبانة قديمة ضخمة من أجل أن يقوم ببناء معبد حتشبسوت الجنائزى فى ذلك المكان بالذات. كثيرًا ما تحدث علماء الآثار والتاريخ عن أسباب اختيار حتشبسوت لمنطقة الدير البحرى لكى تقيم فيه أعظم معبد جنائزى، ومنهم مَن افترض أن السبب الرئيسى كان رغبتها فى أن تجاور مجموعة مونتوحتب الثانى نب حبت رع، مؤسس الأسرة الحادية عشرة والدولة الوسطى!، ومنهم أيضًا مَن قال إن السبب هو وقوع معبد آمون شرق النيل على نفس زاوية اتجاه (أكس) المعبد. وبعد كل ما عثرنا عليه، فربما كان السبب هو أن جدها أحمس وجدته العظيمة تتى شيرى مدفونان هناك.
فى المقال القادم، بإذن الله، نتحدث عن آثار تلك الجبانة البطلمية الضخمة، التى كشفنا عنها فوق أطلال معبد الوادى والطريق الصاعد للملكة حتشبسوت.