بقلم - زاهي حواس
ولد توت عنخ أمون فى سنة ١٣٢٩ قبل الميلاد، وقبل ألف عام من مولده كان الملك خوفو العظيم، ثانى ملوك الأسرة الرابعة، قد وضع آخر حجر فى الهرم الأكبر معلنًا الانتهاء من أعظم مشروع معمارى عرفته البشرية إلى الآن، ولا يزال الهرم الأكبر يقف شامخًا باعتباره المعجزة الوحيدة الباقية من العالم القديم. كذلك فإن بعد مولد توت عنخ آمون بألف سنة تقريبًا دخل الجيش الرومانى إلى الإسكندرية بعد أن هزم جيش الملكة كليوباترا وحبيبها مارك أنطونى، لتلاقى أيقونة البطالمة؛ كليوباترا؛ مصيرها الحزين وهى وحيدة مختبئة داخل مقبرتها التى ما زلنا نحاول العثور عليها. وما بين عصر الملك خوفو وعصر الملكة كليوباترا تاريخ طويل ممتد لملوك وفراعنة عظام حكموا مصر وبنوا إمبراطورية مصرية تحكم الشرق القديم. وكان منهم من خلده التاريخ وحفر اسمه فى سجل أسماء لا تنسى، بينما هناك ملوك وفراعنة آخرون ضاعت ذكراهم ومحيت أسماؤهم من ذاكرة التاريخ وبالتالى طواهم النسيان للأبد، أو فالنقل إلى حين!، والمقصود هنا أنه من الممكن أن يحدث فى أى يوم من الأيام سواء فى المستقبل القريب أو البعيد أن يقرر التاريخ فجأة وبدون مقدمات أن يبعث إلى الحياة اسمًا من تلك الأسماء التى طواها النسيان ليعيد صاحبه مرة أخرى إلى صفحات الخلود.
والى وقتنا هذا وعلى الرغم من مرور أكثر من قرنين من الزمان على نشأة وتطور علم الآثار والذى يُعنى بالكشف ودراسة اللقى الأثرية، وكل ما تخلف من الحضارات القديمة من كتابات وآثار كقرية قديمة مطمورة تحت الرمال يقاس حجمها بالكيلومترات، أو كمعبد يقاس بالأمتار، أو حتى خرزة لا يتعدى حجمها المليمترات، وعلى الرغم من تشعب علم الآثار وخروج العديد من العلوم الإنسانية من تحت مظلته إلا أننا كعلماء وباحثين لا نزال عاجزين إلى حد كبير عن تفسير فلسفة التاريخ فى حفظ وتخليد أسماء وشخصيات معينة بينما أخرى يحكم عليها بالنسيان؟!.
الموضوع شائك ويحتاج إلى كثير من البحث من عدة أوجه إلى جانب المنظور الأثرى. إضافة إلى ضرورة وجود دراسات تُعنى بتحليل الضمير الجمعى للبشر عبر العصور المختلفة. ولكى نخرج من دائرة التعقيد إلى التبسيط نقص عليكم قصة الملك توت عنخ آمون من منظور لم يسبقنا أحد اليه من قبل، على الرغم من أنه ما من ملك من ملوك الحضارات القديمة تم تناوله بالبحث والدراسة فى المائة سنة الأخيرة مثلما حدث مع الملك توت عنخ آمون الذى تفوقت شهرته وترسخت ذكراه أكثر من أى ملك آخر حتى ولو كنا نتحدث عن ملوك مثل خوفو، وتحتمس الثالث، ورمسيس الثانى، بل الإسكندر الأكبر نفسه.
ولد توت عنخ آمون لأبيه الملك أخناتون وأمه التى ما زلنا نجهل اسمها، بينما نعلم أنها كانت أخت الملك أخناتون وابنة الملك أمنحتب الثالث والملكة تى. كان مولد الملك توت الذى سمى عند مولده بتوت عنخ آتون أى الصورة الحية لآتون، فى مدينة العمارنة لكن سرعان ما رحل عنها مع والدته إلى مدينة منف ليعيشا فى قصر جدته الملكة تى ويبدو أن أمه قد ماتت بعد مولده بقليل إثر حادث أليم وتعهدته جدته الملكة تى بالرعاية والاهتمام خاصة أن الطفل الملكى ولد بعيب خلقى فى إحدى قدميه أجبره أن يمشى طيلة حياته بمساعدة عصا. كذلك كانت الملكة تى تعى تماما أهمية هذا الطفل الذى سيحكم مصر خلفًا لأبيه أخناتون، على أمل أن يصلح ما أفسده أبوه باستغراقه فى علوم اللاهوت وإعلان آتون الإله الوحيد مغلقًا كل معابد ومقاصير غيره من الآلهة التى ظلت تعبد على أرض مصر لآلاف من السنين.
يفيض الكيل بالملكة الأم تى وهى ترى سلطان مصر يتزعزع داخليا وخارجيًا، وقد أدى عدم ظهور الجيش المصرى من حين لآخر فى بلاد الشرق القديم، كما كانت عادة الفراعنة قبل أخناتون، إلى حدوث قلائل واضطرابات عصفت بعدد من الممالك التى كانت تدين بالولاء لمصر. وقد قام حكام وملوك الشرق القديم بإرسال المكاتبات تلو المكاتبات لأخناتون يحثونه على أن يأمر الجيش المصرى بالخروج ومجرد الظهور فى المنطقة لكى تهدأ الأمور. وعندما لم يجد هؤلاء أذنا صاغية من الملك توجهوا بمكاتباتهم إلى الملكة الأم تى يستحلفونها أن تتدخل وتقنع ابنها بإنقاذ ممالكهم وبالتالى إنقاذ النفوذ المصرى بمجرد ظهور جيش مصر فى ممالكهم!، وإلى جانب هذا يبدو أن الملكة تى كان قد ورد اليها أنباء تؤكد أن الملكة نفرتيتى تسيطر سيطرة كاملة على زوجها الملك أخناتون وأنها بصدد إقناعه بتنصيبها ولاية العرش!، هنا لم تتردد الملكة تى وأمرت الأمير توت عنخ آتون بالاستعداد إلى السفر لعاصمة أبية «آخت أتوت»- تل العمارنة حاليا- وذلك لأمر هى وحدها من يعلمه.
بمجرد وصول الملكة الأم إلى العمارنة تختفى نفرتيتى وكان ذلك يوافق العام الثانى عشر من حكم أخناتون، وفى نفس العام أو العام الذى يليه مباشرة تم إعلان زواج الأمير الطفل توت عنخ آتون من الأميرة الطفلة عنخ إس إن با أتون. وتم تسجيل هذا الزواج رسميًا على جدران المعابد فى تل العمارنة، وقد بحثت كثيرا عن حجر بعينه يثبت وقوع الزيجة فى حياة أخناتون حتى نجحت فى العثور عليه بأحد مخازن الآثار بمدينة الأشمونين بمحافظة المنيا.
كان زواج توت وتحجيم دور نفرتيتى بمثابة وضع الأمور فى نصابها من قبل الملكة الأم تى العظيمة التى يبدو أنها عادت إلى منف مع الزوجين الصغيرين لعيشا معا فى كنفها ترقبا لما ستسفر عنه الأيام.
مات أخناتون واضطربت الأمور وحاولت نفرتيتى إعلان نفسها ملكة لكن يبدو أن محاولتها لم يكتب لها النجاح. ويتولى الطفل الصغير توت عنخ آتون الحكم وإلى جواره زوجته الطفلة عنخ إس إن با أتون. ولم يكن توت قد تجاوز العاشرة بعد من عمره. ولا نعرف فى تلك المرحلة هل كانت الملكة تى لا تزال على قيد الحياة أم أنها كانت قد رحلت قبل ابنها أخناتون بقليل. المهم أن توت وبوصفه ملكًا على مصر كان واجبه الأول إقامة الماعت أى الحق والعدل والنظام، وكانت الماعت قد اختلت فى عصر أبيه ولذلك قام توت عند التتويج بتغيير اسمه إلى توت عنخ آمون وأصبح اسم زوجته عنخ إس إن آمون. وقام بإعادة فتح معابد الآلهة وأعاد لها ممتلكاتها من أوقاف تصرف منها، وكذلك قام بترميم ما حطمة أبوه من آثار وأسماء لتلك الآلهة التى كانت قد محيت من على جدران معابدها.
للأسف لم يطل العمر بتوت عنخ آمون الذى مات وهو فى الثامنة عشرة ودون أن يترك وريثًا للعرش، الذى آل لمن لا يستحقة. وقد سارع «أى» أحد أكبر رجالات الدولة المصرية عمرًا ونفوذًا بدفن توت عنخ آمون فى مقبرة غير ملكية بوادى الملوك تم تعديلها و(تشطيبها) على عجل وجمع بعض الأثاث الجنائزى من الورش الملكية ومن هبات وهدايا الموظفين وكذلك تعديل النقوش والكتابات على تابوت من الحجر الرملى لكى يناسب توابيت توت الثلاثة التى حمت مومياءه ووضعت داخل التابوت الحجرى المعدل. وبمجرد دفن توت أعلن أى نفسه ملكا على مصر ومن بعده خلفه حورمحب لتنتهى قصة أعظم أسرة فرعونية قديمة، وهى الأسرة الثامنة عشرة.
لم تكن مشاريع توت عنخ آمون قد وصلت لحد يسمح باستكمالها وبقائها باسمه فتم اغتصابها ونسبتها إلى «أى» وغيره. وحدث بعد وقت قصير من دفن توت أن تعرض وادى الملوك لفيضان عارم أدى إلى جرف كميات هائلة من الطمى والرديم الذى أدى إلى اختفاء مدخل مقبرة توت عنخ آمون. وهنا نصحح الخطأ الشائع حتى بين أغلب الأثريين وهو أن حفر مقبرة رمسيس الخامس والسادس هو ما أخفى مقبرة توت عنخ آمون!، وبوفاة آخر رجل عاصر، أو سمع عن توت عنخ آمون يختفى كل ذكر لاسم الملك ويدخل إلى خزانة النسيان.
كل شىء كان يشير بوضوح إلى محو اسم وذكرى توت عنخ آمون وللأبد من ذاكرة التاريخ. ملك مات صغير السن، لم يحارب ولم يقد جيشًا ولم يشيد معبدًا أو يقم مسلة، فلماذا تحفظ ذكراه فى التاريخ الإنسانى؟!، ويأتى الكشف عن مقبرته المتواضعة فلا يعود وحسب إلى ذاكرة التاريخ!، بل يتوج توت عنخ أمون للأبد على عرش ملك ملوك العالم القديم، ويخلد التاريخ الاسم الذى طواه النسيان لأكثر من ثلاثة آلاف سنة، ويصبح الاسم الأشهر فى العالم كله. توت عنخ آمون كان مجرد ملك لم يسعفه العمر ليملك أو يحكم بل إنه لم يفعل شيئا سوى أنه مات فخلده التاريخ.