هل يسخر التاريخ منا ٢

هل يسخر التاريخ منا؟ (٢)

هل يسخر التاريخ منا؟ (٢)

 العرب اليوم -

هل يسخر التاريخ منا ٢

زاهي حواس

مات الفرعون الصغير توت عنخ آمون دون أن يترك وريثًا لملك الأسرة الثامنة عشرة، أعظم أسرة حاكمة فى تاريخ مصر والشرق الأدنى القديم والتى يصفها المؤرخون وعلماء الحضارات القديمة بأنها العصر الذهبى للحضارة المصرية، والتى بدأت بالنجاح فى تطهير أرض مصر من الهكسوس المحتلين، وانتهت بالملك توت عنخ آمون الذى حاول أن يصلح ما أفسده أبوه أخناتون وإعادة مجد أجداده، فراعنة مصر العظام من أحمس وحتى جده أمنحوتب الثالث، ولكن كانت شمس هذه الأسرة قد غابت دون أمل فى أن تعود. حكم أى ومن بعده حورمحب وكل منهما لا ينتمى لملوك الأسرة الثامنة عشره الا بالمصاهرة، وقد فشلا كذلك فى أن يترك أى منهما وريثًا يحكم مصر، حتى اعتلى عرشها القائد العسكرى رمسيس معلنا تأسيس أسرة جديدة وعودة ما يعرف بالملوك المحاربين أو الفراعنة الذين قادوا الجيوش وحاربوا دفاعًا عن أرض أجدادهم ويصبح القائد العسكرى هو الملك رمسيس الأول مؤسس الأسرة التاسعة عشرة.

كان من المتوقع حسب قواعد المنطق والتاريخ أن تختفى ذكرى الملك توت عنخ آمون بوفاة آخر من عاش فى عصره أو آخر من يحمل اسمه فى ذاكرته!، وكل الإشارات التاريخية اللاحقة لوفاة الملك توت كانت تعضد تلك الفرضية حيث سرعان ما قام خلفاؤه على العرش بمحو اسمه من على عمائره وآثاره غير المكتملة، ووضع أسمائهم عليها بعد استكمالها. كذلك لم يجد الفراعنة اللاحقون أن اسم توت عنخ آمون يستحق أن يوضع على القوائم الملكية التى تخلد أسماء فراعنة مصر!، ومن أشهر الأمثلة على ذلك، قائمة الملوك بمعبد سيتى الأول بأبيدوس. فعندما قام فرعون مصر رمسيس الثانى، ثالث ملوك الأسرة التاسعة عشرة، باستكمال معبد أبيه سيتى الأول، صور نفسه هو وأباه وهما يحرقان البخور ويقدمان القرابين ويتلوان الصلوات على أسماء فراعنة مصر بدايةً من مؤسس الحضارة المصرية فى الأسرة الأولى، الملك مينا، وحتى حكم الملك سيتى الأول، وتجاهلت القائمة اسم توت عنخ آمون كما تجاهلت اسم أبيه أخناتون، ومن قبلهما اسم الملكة حتشبسوت، كونها امرأة لا يحق لها أن تحكم باسم حورس، عنوان الملكية فى مصر القديمة.

وعندما قام المهندس المعمارى الخاص برمسيس الثانى باختيار موقع مقبرة الفرعون أوقعه الحظ فى مكان يجاور مباشرة مقبرة توت عنخ آمون الصغيرة والمختفية أسفل ركام الفيضانات بالوادى، ليس هذا فقط بل إن أمام مقبرة رمسيس الثانى تقع المقبرة رقم ٥٥ والتى دفن بها أخناتون!، ولو كان رمسيس الثانى يعلم بمن هم جيرانه فى وادى الملوك ما كان بالطبع وافق على هذا المكان.

وبعد أكثر من ثلاثة آلاف سنة على وفاة الملك توت واختفاء ذكراه تظهر فى بدايات القرن العشرين آثار قليلة أهمها إناء من الفيانس الأزرق لا يتعدى ارتفاعه ستة سنتيمترات، إضافة إلى آثار أخرى تحمل اسم الملك المجهول وتشير إلى احتمالية دفنه بوادى الملوك لكن أين؟، كان هذا هو السؤال الذى لم يشغل ذهن أحد من الحفارين العظماء فى ذلك الوقت سوى الإنجليزى هيوارد كارتر، مفتش مصلحة الآثار بوادى الملوك، والذى نجح فى إقناع اللورد كارنانفون بتمويل حفائر فى الوادى على أمل كشف مقبرة ملكية جديدة. خمسة مواسم حفائر تمر ومعها خمس سنوات من الانتظار بداية من سنة ١٩١٧ وحتى بداية شهر نوفمبر ١٩٢٢، حينما قرر التاريخ وبلا أى مقدمات أو مبررات أن يعيد فتح صفحة الملك توت عنخ آمون من جديد بل يجعله الاسم الأكثر شهرة فى تاريخ ملوك العالم القديم، وذلك بمجرد الإعلان عن كشف مقبرته فى الرابع من نوفمبر عام ١٩٢٢.

كلمتان فقط هما عنوان هذا الكشف الأثرى «أشياء رائعة» نطق بهما هيوارد كارتر عندما سأله اللورد كارنانفون الواقف إلى جواره مكررًا السؤال «هل ترى أى شىء؟». وعلى الرغم من أن اسم كل من هيوارد كارتر واللورد كارنانفون سيظلان يذكران جنبا إلى جنب مع اسم توت عنخ آمون لكن كليهما لم يستفد شيئا من هذا الكشف!، أو فلنقل إن حياة كل منهما لم تصبح أكثر سعادة بعد الكشف!، مات اللورد بعد نحو أربعة أشهر فقط من الكشف فى ظروف مثيرة للشفقة والألم «تسمم فى الدم من لدغة بعوضة يليها جرح فى نفس الموضع الملتهب أحدثته شفرة الحلاقة!»، أما كارتر فقد أمضى ما تبقى له من سنوات لا يفعل شيئا سوى السجال والحرب مع الحكومة المصرية بدعوة أحقية أسرة اللورد فى الاحتفاظ بنصف مكتشفات المقبرة، الأمر الذى وصل إلى قاعات المحاكم المصرية، بل أدى لخروج المصريين فى مظاهرات تطالب بطرد كارتر من مصر وبقاء توت وكنزه فى بلده مصر!، وما بين أمر حكومى بمنع كارتر لمدة عام من دخول المقبرة ثم السماح له بشروط إلى العودة واستكمال العمل بالمقبرة وتسجيل ووصف وترميم ونقل كنوز الملك من وادى الملوك إلى المتحف المصرى، ظلت الأمور صعبة على كارتر الذى لم تلاق محاضراته النجاح المطلوب فلم يكن يوما بالمحاضر البارع وكان يفتقد الحماس فى محاضراته التى كان الحاضرون يمنون أنفسهم بكثير من الإثارة والألغاز حول الكشف وحول المقبرة وكنوزها ثم يفاجأون بالنوم يغلبهم بعد دقائق من بدء المحاضرة!.

سنوات ويموت كارتر وكثير من المعلومات عن الفرعون الذهبى لم يكن قد تم الكشف عنها بعد. والسؤال الذى لم يتم الإجابة عنه إلى الآن بصورة شافية هو لماذا اعتلى توت عنخ آمون قمة التاريخ وصار رقم واحد فى سجل الملوك؟، هل لأن مقبرته الصغيرة المجهزة على عجل هى السبب؟! أم أنه بريق الذهب وحجم الكنز المكتشف؟ أم أن السبب هو الجنون الذى حدث بعد الكشف عن مقبرته وأصاب العالم كله بهوس اسمه توت عنخ آمون؟، فظهر اسم الملك وصور تحفه على خطوط الملابس وحتى زجاجات الخمور والعطور، وديكورات المحلات حول العالم كله!، وإلى يومنا هذا تعتلى معارض توت عنخ آمون حول العالم عرش المعارض الأثرية، محطمةً كل الأرقام القياسية لأعداد الزائرين. وقد اقترح بعض العلماء المنشغلين بقضية الملك توت ووضعه التاريخى الحقيقى بين ملوك العالم القديم أن سبب تلك الشهرة الواسعة هو كل ما تقدم من أسباب يضاف عليها ثلاثة أسباب أخرى رئيسية وهى بالترتيب: أحداث ما قبل الكشف عن المقبرة، ويقصد بها سنوات البحث بداية من الأمل ثم اليأس ثم الكشف، وثانيًا: أحداث ما بعد الكشف، ومنها موت اللورد وعدد من الذين ارتبطت أسماؤهم بالكشف أو زيارة المقبرة واختراع الصحافة لما يعرف بـ «لعنة توت عنخ آمون، ولعنة المومياء». وكذلك ما حدث من مشكلات بسبب سلوك كارتر واللورد كارنانفون اللذين منحا دون وجه حق جريدة التايمز اللندنية الحق الحصرى فى نشر أخبار الكشف دون باقى الصحف ووسائل الإعلام. وأخيرًا لا يمكن أن ننسى أن أحد أعظم أسرار شهرة توت عنخ آمون يرجع إلى سحر قناعة الذهبى المصنف كأغلى وأعظم قطعة أثرية من العالم القديم.

إذًا لم تكن شهرة الفرعون المصرى صغير السن لها علاقة بحياته أو فترة حكمه أو أعماله ولكن مقبرته وكنوزها وقصة كشفها هى جميعًا سبب شهرتة، وهذا ما دعانا إلى أن نختم مقالنا السابق بالقول إن كل ما فعله توت عنخ آمون لينال هذه الشهرة هو أنه مات!، ولو كان بيننا الآن ملك من ملوك مصر القديمة مثل خوفو أو أمنحوتب الثالث أو رمسيس الثانى مثلًا وشاهد معنا ما صار إليه توت عنخ آمون من شهرة وسلطان لتعجب، بل لا نغالى إذا قلنا لمات غيظًا وكمدًا!، والسبب أن ما اختاره القدر ليحفظه لنا من كنوز فراعنة مصر العظام هو أصغرهم حجمًا وكمًا، ومع ذلك وعلى الرغم من قرب مرور مائة عام على الكشف عن مقبرة توت عنخ آمون فلا يزال هذا الكشف هو النافذة الوحيدة الباقية من العالم القديم التى نطل من خلالها على عالم الفراعنة ونتخيل ما كانت عليه كنوز ملوك حكموا مصر لسنوات طويلة وأثاروا الأرض تعميرًا وتعدى سلطانهم حدود الشرق الأدنى كله ليصل إلى حد كشف آثارهم فى قارات بعيدة مثل أوروبا.

أتذكر أننى قلت مرة فى محاضرة من محاضراتى إننا محظوظون لعدم العثور على كنوز ملوك مثل خوفو ورمسيس الثانى؟!، وعندما وجدت الدهشة على وجوه الحاضرين، شرحت لهم أن العثور على كنوز هؤلاء كان سيتسبب فى عدم إطلاق العنان لخيالنا عن هذا العالم المثير، ودائمًا يكون إطلاق الخيال أجمل من الاكتفاء بإدراك الحقيقة. إن التاريخ لم يسخر عندما اختار توت ليمنحه كل هذا المجد والخلود، ولكنه أعطانا الفرصة لإطلاق الخيال وكل منا يرسم فى ذهنه صورة خاصة عن عالم الفراعنة الساحر والمثير

arabstoday

GMT 20:40 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

عندما يعلو صوت الإبداع تخفت أصوات «الحناجرة»

GMT 06:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 06:20 2024 الأربعاء ,10 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

GMT 06:17 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

تسالي الكلام ومكسّرات الحكي

GMT 06:14 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

كيف ينجح مؤتمر القاهرة السوداني؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

هل يسخر التاريخ منا ٢ هل يسخر التاريخ منا ٢



GMT 10:34 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
 العرب اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 13:32 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
 العرب اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 10:29 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
 العرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 09:52 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

أحمد حلمي يكشف تفاصيل لقائه بتركي آل الشيخ وجيسون ستاثام
 العرب اليوم - أحمد حلمي يكشف تفاصيل لقائه بتركي آل الشيخ وجيسون ستاثام

GMT 20:36 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

الأمير الحسين يشارك لحظات عفوية مع ابنته الأميرة إيمان

GMT 02:56 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

النيران تلتهم خيام النازحين في المواصي بقطاع غزة

GMT 17:23 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إنتر ميلان الإيطالي يناقش تمديد عقد سيموني إنزاجي

GMT 16:59 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نتنياهو يتوعد الحوثيين بالتحرّك ضدهم بقوة وتصميم

GMT 17:11 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

اتحاد الكرة الجزائري يوقف حكمين بشكل فوري بسبب خطأ جسيم

GMT 02:52 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

مقتل 10 ركاب وإصابة 12 في تحطم طائرة في البرازيل

GMT 06:45 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

انفجار قوي يضرب قاعدة عسكرية في كوريا الجنوبية

GMT 17:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

.. قتلى في اصطدام مروحية بمبنى مستشفى في تركيا

GMT 11:24 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات أروى جودة في 2024 بتصاميم معاصرة وراقية

GMT 10:40 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

الكرملين ينفي طلب أسماء الأسد الطلاق أو مغادرة موسكو
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab