يتساءل كل زائر للآثار الفرعونية، خاصة معابد الدولة الحديثة، عن معنى المسلة ورمزيتها والهدف من إقامتها؟، خاصةً مع وجود مسلة هائلة من الدولة الوسطى بالمطرية بالقاهرة تعود إلى عهد الملك سنوسرت الأول.
وفى البداية يجب أن نضع تعريفًا للمسلة، فهى قطعة حجر مربعة التخطيط؛ تتدرج وتستدق فى الحجم مع الارتفاع وتنتهى بهريم صغير. وقد أطلق المصرى القديم على المسلة اسم «تخنو»، ولا نعرف أى اشتقاق لغوى لهذا الاسم إلى الآن!. أما اسم «أوبليسك» فقد أطلقه الإغريق على المسلة عندما جاءوا إلى مصر. والاسم يعنى السفور الصغير، حيث يبدو شكله مثل السفور، ونعرفها فى العربية باسم مسلة نظرًا لشكلها الطويل الثقيل، وكلمة مسلة فى اللغة العربية تعنى الإبرة الكبيرة. وقام المصرى القديم بنحت المسلات لما لها من دور دينى كبير، حيث كانت رمزًا لعبادة الشمس، وبداية الخليقة. وقد تم نحت المسلات فى بادئ الأمر فى مدينة أون، التى عرفها اليونانيون باسم هليوبوليس، أى مدينة الشمس. وتعرف حاليًا باسم عين شمس، وكانت مركز عبادة إله الشمس رع منذ عصور ما قبل التاريخ، فكانت المدينة بمثابة العاصمة الدينية لمصر.
واتخذت المسلات قمة هرمية رمزًا لـ«بن بن»، وهو أول قطعة أرض هرمية الشكل ظهرت من اليابسة عندما انحسر الماء عن الأرض فى بداية الخليقة، حسب نظرية المصرى القديم، وقد ظهر على هذا الشكل الهرمى الإله الخالق «أتوم» لأول مرة عند خروجه من المياه الأزلية. وتقول الأسطورة المصرية القديمة إن «أتوم» ظهر على شكل طائر البنو الأسطورى. ومن نظرية الخلق الفلسفية والخاصة بمدينة هليوبوليس اتخذت كل عاصمة فرعونية عقيدة التل الأزلى الخاص بها وبالمعبود المحلى لديها. وبالتالى نعتقد أن المصرى القديم تبنى فكرة الشكل الهرمى من نظرية الخلق؛ حيث كان المصرى القديم يأمل أن يتحد مع إله الشمس رع بعد الموت، وأن يتواجد معه فى رحلتيه اليومية (الشروق والغروب). هذا، ولقد لاحظ المصرى القديم أنه عندما تشرق الشمس مضيئة السماء بنورها فإن أشعتها تظهر كما لو كانت أهرامًا هائلة تربط بين السماء والأرض، وهنا نستطيع القول إن الهرم لم يكن سوى «بن بن» كبير الحجم تم اتخاذه كوسيلة للارتقاء إلى السماء والاتحاد مع إله الشمس رع، وربما استعاض المصرى القديم بعد ذلك عن الهرم بالمسلة.
ترجع أقدم المسلات فى مصر إلى عصر الأسرة الثالثة من عهد الدولة القديمة. وقد عثرت مؤخرًا داخل المعبد الجنائزى لأحد أهرامات الملكات زوجات الملك تتى، أول ملوك الأسرة السادسة، على مسلة جميلة طولها حوالى متر ونصف المتر، وعليها نقش بالهيروغليفية يشير إلى أن هذا الهرم خاص بملكة- لم نسمع عنها من قبل- تُدعى «نيت»، زوجة الملك.
وفى عصر الدولة الحديثة بلغت شهرة المسلات ذروتها. وأُقيمت غالبيتها فى الفترة ما بين الأسرتين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة. وقد عرفنا نوعين من المسلات الجنائزية، أحدها صغير الحجم؛ تتواجد أمام مداخل المقابر، أو فى مقاصير المقابر. وهذه المسلات الجنائزية عادة ما تكون بدون نقوش عدا اسم صاحب المقبرة وألقابه. أما عن مسلات المعابد فكانت تُنصب عادة أمام صروح المعابد، وتتكون من زوجين متماثلين من المسلات.
تُنحت المسلات من قطعة واحدة من الحجر الجرانيتى، وتُقام منتصبة متدرجة كلما ابتعدت بقمتها عن الأرض. وهذه المسلات ذات جوانب رأسية وقمم هرمية مذهبة. وأغلب المسلات الكبيرة المعروفة قُطعت من محاجر الجرانيت بأسوان، وكان زوار المحاجر بأسوان يشاهدون المسلة الناقصة، التى تعود إلى عصر الملكة حتشبسوت. وتقع بالمحجر الشمالى، وهى منفصلة عنه من كل جوانبها إلا الجانب السفلى، ويُقدر ارتفاعها بـ ٤١.٧٥ م، لذلك فهى أطول مسلات مصر. ويبلغ طول طلع القاعدة ٤.٢٠ م. والهريم ارتفاعه ٤.٥٠ م، والوزن الكلى ١١٦٨ طنًّا!، وبذلك تُعد أثقل قطعة حجر تداولها المصريون القدماء؛ بل الإنسان القديم!، ويبدو أن العمل فى قطعها لم يتم للنهاية، وتم إلغاء المشروع نتيجة ظهور شرخ بجسم المسلة بالقرب من قاعدتها. ويبدو أنه عندما كُشف عن هذا الشرخ تم إنقاص ما يقرب من ٤.٨ م من الارتفاع. ثم ظهرت الشروخ مرة أخرى بالقرب من القمة على الضلع الجنوبى للمسلة، مما كان يُحتم معه إلغاء المشروع. هذا، وقد عُثر عند المسلة على مطارق كروية الشكل من حجر الديوريت، يبلغ وزن الواحد منها حوالى ٥.٥ كجم. ومقياسها ما بين ١٥-٣٠ سم، وكانت هذه المطارق تُستخدم لتسوية السطح وصقله وفصل جوانب المسلة.
كانت هناك ضرورة لتطوير موقع المسلة الناقصة؛ خاصة أن الزيارات الكثيفة للمسلة كانت تسىء إلى الأثر!، حيث كان السائحون يسيرون على جسم المسلة بأحذيتهم!، وقد بدأت الفكرة عام ١٩٨٩م. ولكن المرحلة الأولى من التطوير بدأت عام ٢٠٠٠. وكان الهدف الأول هو تنظيف الموقع ونقل الرديم المتراكم به. وقُدرت المقايسة الابتدائية بحوالى ٣٠ ألف متر مكعب من الرديم وكسر الجرانيت. وفى النهاية بدأت تظهر تفاصيل كثيرة فى المحجر الأثرى. وكانت هناك ضرورة لوجود المرحلة الثانية، وهى التى أشرفت عليها، وعمل معى الأثرى عادل الكيلانى، والدكتور طارق والى، الذى أشرف على المشروع هندسيًّا ومعماريًّا، وتم عمل شبكية لموقع المحجر بالكامل، ومناسيب المرحلة الأولى، التى تُعتبر بداية العمل فى المرحلة الثانية، بعد أن تحقق الهدف الأساسى للمشروع، وهو الوصول إلى الصخرة الأم. وقد حددنا هدفًا رئيسيًّا للمشروع كى نخلق رؤية جديدة لموقع محجر المسلة الناقصة، وإظهار كل معالم المحجر وآثاره العديدة، وتجهيزه بكل الخدمات المطلوبة للزائر، وكذلك توفير وسائل الأمن والتأمين للأثر وللسياحة. وقد تم المشروع على النحو التالى:
تم إنشاء مركز للزوار، يتسع لمائة زائر، ويعرض فيلمًا تسجيليًّا عن المحاجر وقطع المسلات وتجهيزها. وقد تواصلنا مع الناشيونال جيوجرافيك، وقاموا بإخراج فيلم وثائقى جميل. كذلك تم إنشاء مبنى الاستقبال لتوفير الخدمات الأمنية والإدارية للزائر. وإنشاء سور يحيط بالموقع بالكامل وإنشاء بازارات للبيع تطل على ممر يتسع لعدد كبير من الزائرين، بالإضافة إلى كافتيريا كبيرة مجهزة بجميع الخدمات، مع سطح خارجى كبير للرؤيا. وأخيرًا تم عمل مدرجات فى منتصف الموقع كاستراحة للزائرين، بها لوحات للشرح عليها. وقد راعينا فى مسار الزيارة أن تقع الكافتيريا وبيت الهدايا وغيرها فى نهاية الزيارة حتى يمكن أن يُستفاد منها لأننى وجدت أن أغلب مناطق الآثار والمتاحف لدينا بها بيوت الهدايا والخدمات عند المداخل؟!، ولذلك لا يلتفت إليها الزائرون. وقد شاهدت بمعبد الأقصر وجود بيت الهدايا عند المدخل!، لذلك اقترحت على القائمين عليه ضرورة أن يقع فى مسار خروج السائحين، وأشاهد الآن الزحام الموجود داخل بيت الهدايا، بعد نقله من مكانه.
وخلال عمليات الكشف وتنظيم الزيارة بموقع المسلة الناقصة، تم عمل مسار خشبى للزائر، ومنعنا تمامًا السير على المسلة. وخلال المسار يمكن للزائر أن يشاهد الاكتشافات المهمة التى تمت بالموقع، حيث تم الكشف أثناء الحفائر ورفع الرديم عن مجموعة كبيرة من الأدوات المصنوعة من حجر الديوريت مختلفة الأحجام.
وقد أمدتنا الحفائر التى تمت بالموقع بالكثير من المعلومات المهمة عن كيفية قطع المسلات، وذلك عن طريق عمل خندق يحيط بالمسلة، حيث يُعتبر خندق الفصل أو القطع عملًا عظيمًا فيما يتعلق بالأساليب الهندسية، التى كان عمال المحاجر المصريون القدماء يستخدمونها فى فصل كتل الجرانيت من الصخرة الأم. كان الأسلوب المتبع لقطع هذه المسلة هو إحداث ثقوب على طول خط التشققات، ثم إدخال أوتاد خشبية، والتى تتمدد بفعل الماء، فتفصل الكتلة الحجرية بطول هذا الخط. ولقد تم العثور على ممرات ممهدة لخروج الكتل الحجرية خارج الموقع إلى اتجاه النيل. كما أظهرت الحفائر كتلًا حجرية مختلفة الأحجام والأشكال، منها ما يمثل بقايا أعمدة أسطوانية وكذلك لكتل مستوية وعلامات أزاميل فى الصخرة الأم ترجع إلى العصر المتأخر والعصر الرومانى.
أما المناظر والنقوش التى عُثر عليها بالموقع فهى مناظر فريدة لمجموعة من طيور النعام المتراصة بجوار بعضها البعض. وهناك منظر آخر يمثل تصويرًا باللون الأسود لنوع من الأسماك تم تحديده على أنه الدولفين. وهذا النوع من الأسماك غير موجود بالنيل، وموجود فقط بالبحر المتوسط، وقد يشير هذا إلى وجود عمال من مناطق أخرى بعيدة عن أسوان كانوا يعملون فى المحاجر. وأمام هذا المنظر صور باللون الأحمر منظر آخر عبارة عن نموذج لمسلة. وكذلك تم العثور على رسومات تخطيطية لمراكب باللون الأسود.
ومن خلال الدراسات، التى تمت على هذه المناظر لتحديد هوية مَن قام بتصويرها، استطعنا معرفة أن الذين قاموا برسم تلك المناظر الجرافيتية لابد أن يكونوا هم العمال الذين جاءوا من منطقة البحر المتوسط للعمل فى قطع المسلات.
كما تم العثور على رسم باللون الأحمر يمثل الإله بس، إله المرح والسرور عند المصريين القدماء، ويوجد أسفل هذا المنظر تجويف فى الصخر، ربما يكون استراحة يستخدمها العمال للراحة والمرح، ودليل على ذلك وجود منظر الإله بس، خاصة فى ظل أعمال المحجر الشاقة. لم تكن تلك المناظر هى الوحيدة التى تم العثور عليها بموقع المسلة، وإنما تم العثور كذلك على بعض النقوش المكتوبة بالخط الهيروغليفى؛ منها ما تم العثور عليه فى الجهة الجنوبية من موقع المسلة، وهو عبارة عن نص للملك تحتمس الثالث يأمر فيه بقطع مسلتين للإله آمون لإقامتهما أمام معبد الكرنك فى العام الخامس والعشرين من حكمه.
وقد عُثر أيضًا على بعض الأسماء التى كُتبت بالديموطيقية لعمال المحاجر وذلك باللون الأحمر. ومن ضمن المناظر التى عُثر عليها مناظر لأسهم تحدد اتجاه الشمال والجنوب حتى يسترشد العمال بهذه الأسهم، بالإضافة إلى العثور على بقايا لقطع سبع مسلات، تم أخذ مقاساتها لمقارنتها بالمسلات الموجودة الآن سواء بمصر أو الخارج.
أما علامات المحجر فقد تم العثور على الكثير منها، التى صُنفت فى ثلاث مجموعات؛ الأولى تمثل خطوطًا لتحديد الأجزاء المراد قطعها من الإطار الخارجى، والثانية خطوط طولية وعرضية متقاطعة أحيانًا، وظهرت معها بعض العلامات الهيروغليفية، أما المجموعة الثالثة فهى عبارة عن خطوط صغيرة متجاورة. كل هذه الاكتشافات أفادتنا بمعلومات مهمة جدًّا عن كيفية قطع المسلات من محاجر أسوان.