بقلم : دكتور زاهي حواس
وثَّقت الملكة حتشبسوت أحداث ونتائج رحلتها التجارية إلى بلاد بونت على جدران معبدها الجميل بالدير البحري بالأقصر. وقد وضعت القائد العسكري نحسي على رأس البعثة ومعه أسطول من السفن البحرية، وفرقة عسكرية. ومع ذلك لم يكن الهدف من الحملة عسكرياً، وإنما كانت تجارية واستكشافية كما يؤكد النص الكتابي على «استكشاف الطرق المؤدية إلى بونت وفتح المعابر إلى مرتفعات أشجار البخور».
ولذلك كانت تصحب الحملة مجموعة من العلماء المصريين من مستكشفين وعلماء في الجيولوجيا، والمعادن، وعلوم النبات، والحيوان، إضافة إلى المتخصصين في اللغات الأفريقية، والمترجمين. وبذلك يكون الجنرال المصري نحسي قد سبق الجنرال الفرنسي نابليون بونابرت الذي قاد حملته الفرنسية إلى مصر في 1798 ميلادية في حين أرسلت الملكة حتشبسوت بعثتها إلى بونت في العام التاسع من حكمها سنة 1498 قبل الميلاد، أي قبل حملة نابليون بونابرت على مصر بـ3295 سنة!
سجل علماء وفنانو حملة الملكة حتشبسوت كل معلومة يمكن تصورها عن بلاد بونت سواء عن تضاريسها ومناخها وحيواناتها ونباتاتها وخصائص سكانها. تبدأ مناظر بعثة بونت بلحظة إبحار الأسطول البحري المصري من ميناء مصري على البحر الأحمر متجهاً إلى الجنوب. وقد انتهز الفنان المصري المصاحب للحملة الفرصة لتسجيل ليس فقط أسماء وألقاب قادة الحملة ووظائفهم، وإنما أيضاً تصوير البيئة البحرية للبحر الأحمر بأسماكه وشعابه المرجانية.
وعند نجاح الحملة في الوصول إلى بلاد بونت نجد الفنان المصري القديم يبدع في وصف البيئة والتضاريس الخاصة بذلك البلد الأفريقي، حيث طبيعة البلاد ذات الهضاب المتدرجة على هيئة مدرجات يرتفع بعضها فوق الأخرى، وهي كثيفة الأشجار غزيرة المطر متنوعة الحيوانات وبخاصة أنواع القردة والغزلان والزراف والكلاب والفيلة، إضافة إلى الجاموس والبقر المستأنس. أما عن منازل سكان بونت فقد سجلت بأدق تفاصيلها وهي مساكن خشبية بنيت مرتفعة عن الأرض يتم الصعود إلى مدخلها عن طريق سلم خشبي مثل السلالم التي يستخدمها العمال والنقاشون في أعمالهم إلى يومنا هذا. وربما يكون بناء المساكن مرتفعة عن الأرض شكلاً من أشكال الحماية ضد الحيوانات المفترسة، ومثل هذه البيوت أو المنازل لا تزال موجودة إلى يومنا هذا في بعض القرى ببلدان أفريقية على الساحل الشرقي الأفريقي، وسقفها مقبى مغطى بالخشب وجلود الحيوانات، وهو ما يناسب البيئة الاستوائية.
أما عن لحظة لقاء الجنرال نحسي ـ قائد الحملة المصرية ـ بحاكم بونت وزوجته ملكة بونت، فهذا واحد من أجمل المشاهد المصورة في تاريخ الحضارة المصرية لأسباب عدة غير الجمال والروعة. حيث المنظر يصور لحظة تاريخية وحدثاً وثَّقه الفنان المصري القديم لقاءً رسمياً بين وفدين من دولتين مختلفتين. يتقدم نحسي بالهدايا المصرية من منسوجات كتانية وحلي ذهبية إلى حاكم بونت، بينما تقدم بونت خيراتها من ذهب خام وعاج وأخشاب الأبنوس وجلود الحيوانات وحيوانات حية، بالإضافة إلى أندر وأثمن أنواع البخور وأشجارها. تعود حملة الملكة حتشبسوت سالمة من بونت محملة بخيراتها وبمعلومات وافية عن البلد وسكانه ليتم عمل تقرير وافٍ عن الحملة وما حققته، ومرفق بالتقرير قوائم دقيقة بكميات وأعداد وأوزان كل ما جاء من بونت، والذي نراه وهو يسجل بعد أن يتم وزنه وقياسه بكل دقة عن طريق موظفين متخصصين في الوزن والمكاييل. وكان أهم ما أتت به حملة الملكة حتشبسوت من بلاد بونت أشجار البخور الحية التي وهبت الملكة عدداً منها لتتم زراعتها بمعبد الإله آمون بالكرنك، والجزء الآخر تتم زراعته على جانبي الطريق الصاعد لمعبدها الجميل بالدير البحري. لقد سبقت الملكة المصرية العظيمة حتشبسوت نابليون بونابرت في إرسال الحملات والبعثات الاستكشافية لفتح طرق تجارية جديدة، واكتشاف العالم المحيط بمصر في ذلك الزمان السحيق.