كان ذلك في 16 فبراير (شباط) من العام 2016، عندما قال حسن نصر الله، في خطاب بدا وكأنه محاولة لخلق حالة من توازن الرعب مع إسرائيل، وكانت المناسبة بعنوان «مقاومة لا تهزم»، إن بضعة صواريخ من عندنا كافية أن تصيب مخازن الأمونيا في ميناء حيفا، لتكون نتيجتها قنبلة نووية في منطقة يسكنها 800 ألف نسمة، ليقتل منهم عشرات الآلاف.
بعد أقل من أسبوع، نقلت وكالات الأنباء أن إسرائيل نقلت هذه الكميات من الأمونيا إلى أمكنة بعيدة، لكن المنظومة السياسية الفاسدة التي تمسك بالقرار اللبناني منذ ذلك التاريخ، لم تتنبه أو تتذكر أن هناك شحنة من الأمونيا تنام في مرفأ بيروت، ويمكنها أن تتحول قنبلة نووية تقتلع العاصمة من أساسها.
جاء الانفجار الثاني، بعد هيروشيما ليذبح بيروت، مدينة المدائن، فلم يمحُ مرفأ العاصمة من أساسه فحسب، بل ضرب قطراً من الدمار والهول، وصل إلى أطرافها، وحتى كتابة هذه السطور كان عدد القتلى قد ناهز 140 وعدد الجرحى أكثر من 5 آلاف، أما عدد المفقودين فليس واضحاً، كان انفجاراً أطلق غيمة على شكل فطر نووي، صدّع الأبنية على مسافات بعيدة، ودمّر منازل أكثر من 300 ألف عائلة، وظهرت صور مرعبة لأشخاص قذفهم الانفجار مئات الأمتار في الفضاء، فبدوا مثل طيور، تتساقط إلى الموت الفاجع.
السؤال الأساس، الذي يرتفع في كل بيت لبناني، الآن، لماذا لم يقتلع هذا الانفجار الرهيب كل هذه المنظومة المجرمة، التي أياً تكن أسباب الانفجار التي أثارت وستثير جدلاً، سيتسع جداً في الأيام المقبلة، تبقى مسؤولة عن الكارثة المروعة التي أيقظت دول العالم من أقصاه إلى أقصاه على أن هناك قتيلاً دولياً يسمى لبنان؟ وهكذا تدافع الجميع إلى تقديم ما يلزم من المساعدات العاجلة في بلد ينزف، ولم يعد يملك ثمن رغيف.
منذ لحظة الكارثة كان هذا سؤال اللبنانيين، في حين كنا نشهد ما يتجاوز الفضيحة في اجتماع الحكومة الذي سيطرت عليه خلافات وملاكمات كلامية بين الوزراء، على خلفية تقاذف المسؤوليات من جهة، وتقاذف الاتهامات من جهة أخرى.
للمقارنة فحسب، مع وصول الرئيس إيمانويل ماكرون إلى بيروت، يوم الخميس الماضي، رغم كل الاتهامات السخيفة التي كان قد وجّهها رئيس الحكومة حسان دياب إلى وزير الخارجية جان إيف لودريان، وأدت إلى استقالة وزير الخارجية ناصيف حتي، كانت الأنباء تتحدث عن أن رئيس الحكومة الفرنسية جان كاستكس، يعقد اجتماعاً في باريس للوزراء المعنيين بمساعدة لبنان على النهوض من الكارثة، ووضع خطة مفصّلة طويلة الأمد لتقديم المساعدات إلى لبنان، ولكن هل قام أحد من المسؤولين اللبنانيين بالإسراع في النزول إلى ساحة الكارثة، لتفقد الوضع كما فعل ماكرون الذي حرص على أن يذهب إلى المرفأ والعاصفة المنكوبة قبل أن يذهب لمقابلة المسؤولين؟
قد لا يتسع المجال هنا للقول إن زيارة ماكرون تشكّل سابقة في تاريخ فرنسا، إذ إن أياً من الرؤساء الفرنسيين لم يسرع لزيارة موقع كارثة خارج الأراضي الفرنسية، باستثناء زيارة الرئيس الفرنسي جاك شيراك وزوجته للمشاركة في جنازة الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
لكن لبنان يبدو الآن شهيداً مرتين؛ الأولى بسبب الانفجار «النووي» الهائل الذي دمر نصف العاصمة بيروت، والثاني بسبب الغثاثة التي سيطرت وتسيطر على الدولة اللبنانية التي تبدو في عالم آخر.
منذ اللحظة الأولى سارع وزير الصحة حمد حسن مثلاً إلى القول إنها عملية انفجار مخزن مفرقعات، ثم قيل إن هناك في العنبر رقم 12 كميات مصادرة من مادة الأمونيا تبلغ 2750 طناً منذ العام 2013، يمكن أن تكون نيران المفرقعات أشعلتها مسببة الكارثة، وهذا بعيد عن المنطق، لأن الأمونيا تحتاج إلى مواد أخرى تدمج معها لتصبح متفجرة، ثم قيل إن عملية تلحيم لأحد الأبواب أدت إلى وصول النار إلى أكياس الأمونيا، وهذه «زعبرة»، لكن في الوقت عينه تراكمت التحليلات والروايات حول كارثة الانفجار، ونشرت عشرات من الصور على مواقع التواصل الاجتماعي، تظهر أن صاروخاً إسرائيلياً أصاب العنبر لينفجر.
ليس طبيعياً ولا معقولاً في أي دولة في التاريخ، أن تتم مصادرة كمية الأمونيا الهائلة، أي 2750 طناً، من سفينة تحمل علم «مولدافيا روسوس» «MV Rhosus» المملوكة لرجل أعمال روسي، وذلك في عام 2013، وأن يتم تخزينها في المرفأ عام 2014 بعدما قرر قاضي الأمور المستعجلة مصادرة الشحنة، ومنذ ذلك الوقت حتى هذه السنة عمل قضاة الأمور المستعجلة على التنبيه كتابة إلى المسؤولين على خطورة هذه المواد التي لا يجوز أن تبقى وسط العاصمة.
وإذا كانت بعض المصادر تقول إنه تم إبلاغ المسؤولين أيام الرئيس سعد الحريري، فإنه ينفي ذلك، بينما تؤكد المصادر أنه تم في مايو (أيار) الماضي إبلاغ حسان دياب مرتين، وكذلك الرئيس ميشال عون 3 مرات، عن خطورة بقاء هذه المواد في العنبر رقم 12 على المرفأ، ولم يتم اتخاذ الإجراءات لمعالجة الأمر.
المثير أكثر من كل هذا أن إسرائيل كانت قد نشرت في الأسابيع الماضية خريطة مفصّلة، قالت إنها تمثل المراكز التي يقوم «حزب الله» بتخزين أسلحته وصواريخه بها، حتى معامل الصواريخ الدقيقة، تصله من إيران فيها، ومن بينها مكان قرب المرفأ، وتحديداً العنبر رقم 12 حيث كانت كمية الأمونيا، أضف إلى ذلك أن صحيفة «تايمز أوف إسرائيل» قالت في العام الماضي إن الموساد قام بإبلاغ وكالات مخابرات أوروبية حول قيام «حزب الله» بتخزين مواد الأمونيا في موانئ بيروت لاستخدامها في صنع القنابل.
في السياق ذاته، في يوليو (تموز) من عام 2012 تم اعتقال عنصر من «حزب الله» في قبرص، يدعى حسين عبد الله، بعد اكتشاف أكثر من 8 أطنان من نترات الأمونيوم في منزله، وفي أغسطس (آب) من عام 2015 تم اعتقال 3 عناصر من الحزب في الكويت بعد اكتشاف 42 ألف باوند من نيترات الأمونيوم، إضافة إلى متفجرات C4 في منزله، وفي عام 2017 داهمت السلطات البوليفية مخزناً كبيراً لـ«حزب الله» عثرت فيه على كميات من المتفجرات، تكفي لإنتاج قنبلة بوزن 2.5 طن، وقبلها داهمت السلطات الألمانية مخازن للحزب في جنوب البلاد، وجدت فيها كميات كبيرة من نيترات الأمونيوم، وسارعت إلى تصنيفه منظمة إرهابية!
أمام هول الكارثة التي ذكّرت كثيرين بما جرى في تشرنوبيل، بدت إسرائيل مربكة، أولاً عندما أعلن بنيامين نتنياهو مباشرة بعد ساعة من الانفجار أن إسرائيل تعرف كيف ترد وتستبق مواقع الإرهابيين من «حزب الله»، لكن بعدما تكشّف من هول الجريمة التي يطاولها القانون الدولي، كان من الغريب أن تعرض إسرائيل مساعدة لبنان في محنته «من بشر إلى بشر»!
طبعاً «حزب الله» نفى أي علاقة له بما جرى، لكن المثير في كل الكارثة أن هناك عشرات الروايات حولها، من مسخرة الحديث عن المفرقعات النارية إلى قصة الحديث عن قنبلة نووية صغيرة ألقتها إسرائيل، ولو أن عصفها لم يذهب إلى البحر لكانت بيروت هيروشيما العصر، وفي أي حال يمكن أن يشاهد المرء ملامح هيروشيما في بيروت القتيلة 3 مرات؛ مرة بالانفجار الذي دمرها، ومرة ثانية بالمنظومة السياسية التي تقوم منذ زمن على تدميرها، ومرة ثالثة وأساسية باستكمال هيمنة دويلة «حزب الله» على الدولة، وخصوصاً بعد التحالف مع الرئيس ميشال عون كما هو معروف، وبعد قيام الحزب بتشكيل «الحكومة المسخرة» التي يكفي أن نعرف أنها وقعت في الاشتباك بين الوزراء على الصلاحيات والقرارات، بينما كان القتلى اللبنانيون يتطايرون في الفضاء أو يسحقون تحت الركام.
والأنكى من ذلك أن تقرر السلطة المقصرة والمهملة تشكيل هيئة تحقيق من أعضائها المسؤولين بالتغاضي الذي أدى إلى الكارثة، في حين المطلوب هيئة تحقيق دولية، من خبراء يعرفون ما جرى، ولا يحاولون لفلفة ما جرى كالعادة!
هذه المنظومة السياسية يجب أن يقتلعها الانفجار، كما اقتلع قلب لبنان، ويكفي أن نتذكر فقط أن ماكرون الذي وصل إلى بيروت في الحادية عشرة من قبل ظهر الخميس، اتجه فوراً إلى المرفأ ومسرح الكارثة، ثم عرج متفقداً الناس في محيط المرفأ، متحدثاً إلى المفجوعين، ليصل إلى مقابلة عون الساعة الرابعة بعد الظهر، أي بعد 5 ساعات، فالوقت للناس المفجوعين الذي لم يتفقدهم أحد جيداً من أهل الدولة المسخرة، فهل كثير أن يقول ماكرون، من منطقة الجميزة المدمرة كلياً حيث عانق الناس، إن هذا النظام يجب أن يتغيّر، وإنه سيقترح ميثاقاً جديداً «للبلد المقتول»، وهل هذا الذي دفع عون إلى تركه وحيداً يتحدث إلى الصحافيين ليسبقه إلى الداخل... غريب!