أربعة أسابيع والحكومة اللبنانية السعيدة التي يقول رئيسها الدكتور حسان دياب إنها جاءت نتيجة ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي الشعبية، والتي رفعت شعار الخلاص من الطقم السياسي الفاسد الذي أوصل البلاد إلى المجاعة والفقر بسبب السرقات والفساد السياسي المتوحش وغير المسبوق، ولم تتمكن هذه الحكومة مثلاً من أن تتخذ قراراً، حيال ما سمّاه وزير ماليتها غازي وزني «الاختيار بين السيئ والأسوأ».
والسيئ هنا ليس أن هذه الدولة السائبة مفلسة تماماً، وسبق لوزير ماليتها السابق علي حسن الخليل، أن أعلن من التلفزيون أن الخزينة فارغة «ولا ليرة»، وفوق هذا أن وارداتها تراجعت في الأشهر الثلاثة الأخيرة بنسبة 40 في المائة، ولا يتوقف السيئ عند هذا الحدّ، ولا حتى عند حدود ترجمته العملية، عبر تأكيد معظم المسؤولين من الوزراء والنواب تكراراً وعلناً أنها «دولة النهب» كما جرى خلال نقاشاتهم المنقولة على الهواء من مجلس النواب.
ولا السيئ يا سيدي أنه تترتب الآن على هذه الدولة سلسلة من الديون المتتابعة والمجدولة زمنياً، بعدما لامس ديْنها العام المائة مليار دولار، ولا حتى أنها تواجه استحقاقاً يبدو داهماً رغم أنه كان واضحاً منذ زمن بعيد، أي عليها أن تقرر ما ستفعل حيال مبلغ مليار و200 مليون دولار سبق أن صدرت باليوروبوندز، ويستحق موعد تسديدها يوم الاثنين المقبل.
السيئ هنا: الحيرة بين أن ندفع هذا المبلغ من المصرف المركزي، أي من ودائع الناس الذين يتعرضون إلى عملية «كابيتال كونترول» عشوائية جعلتهم يقفون صفوفاً، لتسوّل أموالهم من المصارف، التي تعود الدولة دائماً لسرقتها لكي تسدد ديونها، وهو ما سيترك البلاد الآن غير قادرة على استيراد الدواء والقمح ودفع مستحقات المستشفيات والمستلزمات الطبية والمحروقات والمواد الأولية الضرورية للصناعة، بمعنى استعمال أموال الناس تكراراً بما سينعكس خنقاً للناس.
لكن الأسوأ في رأي البعض ألا ندفع، بما يعرّض سمعة لبنان وصورته إلى التشويه في الأسواق المالية العالمية، ويمكن أن يؤدي إلى فرض عقوبات وحجوزات على مؤسسات الدولة وممتلكاتها.
لكن منة المعروف أن هناك دائماً معبراً بين السيئ والأسوأ، أي محاولة جدولة هذا الدين عبر تفاهم مع المقرضين وحملة «اليوروبوندز»، على دفع جزء وتأجيل جزء، ولكن هذا يحتاج إلى ترتيب مساحة من الثقة لدى المقرضين بأن لبنان سيتمكن هذه المرة خلافاً لسلوكه السيئ في الماضي، من الانخراط في عملية إصلاحية تساعده في تحسين وضعه المالي والاقتصادي، وتالياً تمكنه من الإيفاء بالتزاماته مستقبلاً.
فور تشكيل الحكومة أعلن رئيسها حسان دياب من بعبدا: «إننا نسير إلى كارثة وعلينا معالجة الأمر»، لكننا حتى مساء أمس (الجمعة)، لم تعلن الحكومة قرارها حيال ما قررت من خيار بين الأسوأين، وهو ما يفترض أن تبلغه الاثنين إلى الأسواق.
أسوأ من الأسواء أن حكومة الاختصاصيين كما قيل، وقعت في خلاف مضحك مبكٍ، عندما قررت الاستعانة باختصاصيين دوليين لمساعدتها في اتخاذ القرار، واختارت بعد نقاشات طويلة شركتين من أصل ثمانٍ؛ واحدة هي «لازارد» للمسائل المالية والثانية هي «هاميلتون» للمسائل القانونية، لكن سرعان ما برز خلاف على خلفية أن هناك في الشركتين إسرائيليين وخبراء عملوا في إسرائيل أو أن للشركتين فروعاً في إسرائيل.
ووسط تخوّف البعض من أن يضطر لبنان إلى اللجوء إلى البنك الدولي لمساعدته كما حصل في بلدان أخرى، لأن لهذا البنك شروطاً إصلاحية واضحة وصارمة يفترض الالتزام بها شرطاً لتقديم المساعدة، قفز «حزب الله» ليعلن رفضه «الخضوع للاستكبار العالمي»، وهو ما زاد طبعاً من حذر حملة «اليوروبوندز» التي يتم البحث معها في موضوع إعادة الهيكلة.
ليس المثير طبعاً أن تعتمد «حكومة الاختصاصيين» التي سمتها الثنائية الشيعية، بالتعاون مع حليفها الرئيس ميشال عون وحزبه السياسي، وجاءت من لون سياسي واحد، ما سيؤدي طبعاً إلى إغلاق الأبواب في وجهها، عربياً وأوروبياً وأميركياً، وكان هذا أمراً معروفاً، المثير أنها لم تدقق في هوية الشركتين قبل أن تقرر التعاون معهما، مع أنه في وسع صبي أن يدخل إلى «غوغل» فيعرف تماماً ما هي هذه الشركات ومن يملكها، والمضحك أكثر أن ديون لبنان ليست سرية في الأدراج، بل معلنة ومتداولة في الأسواق ولدى الشركات المالية، ويعرف الخبراء عنها أكثر من الحكومة بكثير، لكن ثمة - ويا للغرابة - من يخاف فجأة أن يعرف العدو الإسرائيلي عن وضع لبنان المالي المكشوف جيداً في الردهات الاقتصادية الدولية.
ولأننا وقعنا في حشرة الوقت، ابتلعت الثنائية الشيعية فكرة التعاون مع الشركتين، حيث دارت سلسلة من الاجتماعات والمشاورات المكثّفة، التي ستؤدي كما قيل إلى إعلان الدولة اللبنانية ليل أمس (الجمعة)، أو اليوم (السبت) قرارها بالتسديد أو بالذهاب إلى الهيكلة وهو الأغلب، لكن الأهم بالنسبة إلى المواطن اللبناني الذي تعلكه أزمة اقتصادية ومالية خانقة رفعت البطالة إلى أكثر من 50 في المائة وأدت إلى إقفال مئات من المصانع والمطاعم والمؤسسات، في وقت تضاعفت فيه حركة الشلل العام بعد انتشار «فيروس كورونا»، رغم أنه كان من الغرائب أن يستمع اللبنانيون والعرب إلى وزيري الصحة والسياحة اللبنانيين يدعوان في مؤتمر صحافي إلى تنشيط السياحة الطبية إلى لبنان، الذي يرتجف هلعاً خوفاً من بقاء أجوائه مفتوحة مع بلاد موبوءة مثل إيران تحديداً وإيطاليا، وبعد شكوك عميقة في إجراءات الوقاية التي تتخذها الحكومة على المعابر الجوية والبرية!
المثير وسط هذه الحمى المتصلة بترتيب الوضع مالياً واقتصادياً أن رئيس الحكومة دياب ذهب إلى مراشقة الآخرين، باتهامات بدت مسيئة إلى الدول العربية أكثر من إساءتها إلى خصومه، وخصوصاً عندما يقول:
إن هناك أوركسترا تعمل ضد البلد وتمارس الألاعيب ومحاولات تشويه الحقائق والتزوير عبر اختلاق الأكاذيب ورمي الاتهامات وتغيير الحقائق… وتحرّض ضد لبنان لمنع الدول من المساعدة مالياً!
وفي اعتقاد الكثيرين في بيروت والعالم العربي، أن مثل هذا كلام يسيء إلى الدول العربية التي يريدها دياب أن تساعد لبنان، لأنها في علاقاتها التاريخية مع لبنان، لم تكن تستند إلى الأوركسترات والتشويه، بل إلى استراتيجية واضحة ومعروفة تقوم على اعتبار لبنان بلداً عربياً شقيقاً وعزيزاً يستحق كل الدعم والمساعدة كما تثبت محطات كثيرة، ثم إن الدول العربية لا تتخذ مواقفها وسياساتها عبر كلام من هنا أو من هناك، بل عبر استراتيجية تحرص على أن يبقى لبنان شقيقاً في الأسرة العربية، أو على الأقل أن ينأى بنفسه، كما يعلن، عن الصراع الإقليمي، لا أن يتحول منبراً للإساءة إلى أشقائه والتنكر إلى عروبته، وخصوصاً بعدما كرر المسؤولون في إيران دائماً أنهم باتوا يسيطرون على بيروت، ولم يقف مسؤول على الأقلّ في البيئة السياسية التي استولدت دياب ويعترض أو يرد على هذا الكلام المهين للسيادة والاستقلال.