بقلم- راجح الخوري
قبل أن يعود الوفد اللبناني من الناقورة إلى بيروت يوم الأربعاء الماضي، بعد الجلسة الأولى من المفاوضات التاريخية مع الوفد الإسرائيلي لترسيم الحدود بين البلدين، والتي عقدت في خيمة للأمم المتحدة في الناقورة، وصل بيان وزارة الخارجية الأميركية الذي قال إن الجانبين أجريا محادثات بناءة ومثمرة، كما أكدا الالتزام بمواصلة المفاوضات في 28 من الشهر الجاري.
وهكذا بدت الاعتراضات الشكلية التي صدرت عن «حزب الله» على أعضاء الوفد اللبناني من الماضي، أو مجرد غبار تعمية في اللحظة الأخيرة لحفظ ماء الوجه، بعدما تناولت رفض وجود مدنيين في الوفد، وملاحظات حول طريقة الجلوس والمخاطبة، والصورة التذكارية، وكيفية التواصل مع الوفد الإسرائيلي.
لكن المثير أن تصل يوم الخميس «التطمينات الحقيقية» الملغومة طبعاً، من بنيامين نتنياهو، بعد المخاوف التي أبداها «حزب الله» من أن تشكل المفاوضات تطبيعاً مع إسرائيل، وأنها يجب أن تبقى مجرد ترسيم للحدود، ولكأن عملية الترسيم لا تشكل في معناها القانوني الدولي اعترافاً بحدود الدولة الأخرى وتنفي كل حق في حمل السلاح و«المقاومة وتحرير الأرض». فقد شدد نتنياهو أمام الكنيست على أن حكومته ستواصل مواجهة «حزب الله»، وأن «لا سلام مع لبنان ما دام (حزب الله) المدعوم من إيران مسيطراً عليه؛ لكن مفاوضات ترسيم الحدود مؤشر للمستقبل»!
إذن يستطيع «حزب الله» القول غداً أن لا عملية سلام وراء التفاوض؛ لكنه بالطبع وقياساً بمحتوى نقاط «اتفاق الإطار» لا يمكنه أن يستمر في طرح شعارات المقاومة والتحرير كمبرر للاحتفاظ بسلاحه، ولهذا ستبرز مرة أخرى عقدة «مسمار جحا»، أي مزارع شبعا التي يقول لبنان إنها لبنانية، وتقول إسرائيل إنها سورية احتلتها عام 1967، وتمنعت سوريا منذ الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب عام 2000 عن تزويد لبنان بخرائط تثبت لبنانيتها وتودَع الأمم المتحدة، بحيث يمكن للاتفاق على الترسيم أن يعيدها إلى لبنان، بدلاً من أن تبقى تحت الاحتلال الإسرائيلي، ما لم تكن سوريا تشدد على أنها تتجه بدورها إلى التطبيع مع إسرائيل التي طالما أشادت بحرص دمشق على الهدوء في الجولان!
ما جرى وسيجري في الناقورة لترسيم الحدود اللبنانية الإسرائيلية بحراً وبراً، هو مجرد فصل مهم طبعاً، ولكنه فصل من ملف أوسع، يتصل مباشرة بالصراع الأميركي- الإيراني، فليس مصادفة أن يقف الرئيس بري ويعلن فجأة عن «الاتفاق الإطار»، ويقول إنه يستند إلى قرار مجلس الأمن رقم 1701 الذي يشمل مضمون القرار 1559، وكلاهما يدعو إلى نزع سلاح كل الميليشيات، بما يشمل سلاح «حزب الله» الذي لم يعلق بحرف؛ لأنه من الواضح تماماً أن الضوء الأخضر كان قد وصل من النظام الإيراني الذي يعاني من العقوبات الأميركية المتصاعدة والتي وصلت إلى المصارف الإيرانية، وهو ما دفع أحد المسؤولين إلى الإعلان قبل أسبوعين أن «العقوبات خنقتنا إلى درجة أننا لا نقدر على تحريك دولار واحد»!
وليس مصادفة أن يقول وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو فوراً بعد إعلان بري، إنه «اتفاق تاريخي» حتى قبل أن يتم التوصل إليه، كما أنه ليس مصادفة أيضاً أن يأتي هذا قبل 13 يوما من موعد الانتخابات الأميركية، وبعد ثلاثة أسابيع من فرض عقوبات أميركية على الوزيرين السابقين: علي حسن خليل، ويوسف فنيانوس، مع وصول تقارير من مصادر عليا تحدثت عن مروحة واسعة من العقوبات التصاعدية ستطاول لائحة بأسماء كبيرة في لبنان، على خلفية دعمها لـ«حزب الله»!
لكي تكون الصورة أوضح، يجب التدقيق في الرهانات الإيرانية عشية الانتخابات الأميركية، ودائماً من منطلق السعي إلى الخروج من كماشة العقوبات المتصاعدة، فبالنسبة إلى طهران، إذا فاز جو بايدن فإنها ستتنفس الصعداء.
ولكن إذا فاز ترمب فتلك مشكلة عويصة تفرض على طهران مباشرة شرب «كأس السم» بلعة بلعة، وذلك عبر تسليفه أوراقاً ومؤشرات عن استعدادها للعودة إلى طاولة المفاوضات، وخصوصاً بعد تصعيد العقوبات، رغم إعلان ترمب في 21 يونيو (حزيران) الماضي استعداده لمفاوضتها من دون شروط.
مع انتهاء جولة المفاوضات في الناقورة، أُعلن الخميس عن إطلاق للمعتقلين في إيران، شمل ساندرا ألوي وميكايل جيدادا، وكل هذا من ضمن روزنامة التسليفات الحسنة التي جاء الإفراج عن ملف ترسيم الحدود اللبنانية مع إسرائيل، كورقة مهمة وحيوية فيها، يمكن أن تضاف إلى الأوراق الأخرى التي تخدم ترمب في معركته الانتخابية!
وهكذا يأتي مساعد وزير الخارجية الأميركي ديفيد شينكر إلى الناقورة، فيجلس إلى جانب ممثل الأمم المتحدة يان كوبيتش؛ لكنه هو الذي يرأس الجلسة الافتتاحية، ويرافقه السفير الأميركي السابق جون دورشر الذي سيكون منسقاً ووسيطاً في كل جولات التفاوض. ومن الناقورة يأتي شينكر مباشرة إلى زيارة الساعة ونصف الساعة لبري الذي سبق أن قال له: «تعالَ لآخذك إلى الضاحية الجنوبية» فيما بدا تحبباً!
الغزَل اللبناني بالأميركيين كان بارزاً عندما نوَّه رئيس الوفد اللبناني العميد الطيار بسام ياسين في كلمته باستضافة الأمم المتحدة: «ولكن بوساطة مُسهلة من الولايات المتحدة الصديقة، على القيام بدور الوسيط، وإعلانها النية على بذل قصارى جهدها للمساعدة على تأسيس جو إيجابي وبنَّاء، والمحافظة عليه في إدارة هذه المفاوضات»!
هل كان «حزب الله» ليبتلع كل هذه الإشادة بالولايات المتحدة، لو لم يكن الضوء الإيراني الفاقع، هو الذي أنهى إغلاق الباب على ملف الترسيم عشرة أعوام عند «الثنائية الشيعية»، طمعاً في فتح الأبواب أمام عودة ملائمة إلى التفاوض مع ترمب، بما يرفع سيف العقوبات عن عنق النظام؟
طبعاً كان «حزب الله» يعرف تماماً إلى أين تقوده خريطة الحسابات الإيرانية، ولهذا بعد التساؤلات التي أثارها إعلان بري المفاجئ عن الاتفاق على التفاوض، والتي سببت حرجاً للحزب، اجتمع نوابه ووضعوا تخريجاً جديداً لحفظ ماء الوجه بإعلان الوقوف وراء الدولة. ففي بيان مثير قالوا: «إن تحديد أطر إحداثيات السيادة الوطنية هي مسؤولية الدولة اللبنانية بأن تعلن هذه الأرض وهذه المياه: هي أرض ومياه لبنانية»، ولهذا سيطرح كثيرون غداً السؤال الآتي: بعدما يتم التفاهم على الـ13 نقطة المتبقية على الخط الأزرق مع إسرائيل، إذا رفضت سوريا الإقرار بلبنانية مزارع شبعا، فهل تقبل الدولة بهذا، بما سيلغي كل مسوغ لبقاء سلاح «حزب الله»؟ أم أن المزارع ستبقى «مسمار جحا» إلى أن يقتلعه النظام الإيراني، إذا استؤنفت المفاوضات مع ترمب أو التفاهم مع بايدن؟
كانوا أربعة في الناقورة: الأمم المتحدة، وأميركا، ولبنان، وإسرائيل، وصحيح أن الأميركيين رتبوا الاتفاق على الترسيم الذي لم يعد ينقصه غير صورة الإخراج، وصحيح أنهم افتتحوا المفاوضات وسيديرونها، ولكن الصحيح أيضاً أنه كان هناك وفد خامس في الظل، هو الضوء الأخضر الإيراني الذي يريد لورقة الترسيم أن تلعب دورها في تسوية ترفع العقوبات الخانقة عن طهران.