في 4 فبراير (شباط) الحالي، وبعد إنكار النظام الإيراني تكراراً عدم تأثير العقوبات الأميركية على اقتصاد البلاد، اعترف نائب الرئيس الإيراني إسحاق جهانغيري بأنه ليس في وسع طهران نقل أي أموال بسبب العقوبات المالية والمصرفية، وقال لوكالة «إسنا» إن الولايات المتحدة لا تسمح لنا بنقل دولار واحد، حتى من الأموال الإيرانية الموجودة في مختلف دول العالم، صحيح أنه من المعروف أن على دول العالم أن تلتزم بقوة بأي عقوبات تفرضها الأمم المتحدة، لكن العقوبات الأميركية تكون أحياناً أهم وأقسى!
من الطبيعي أن المسؤولين في لبنان، الذي يعاني من أزمة اقتصادية ومالية خانقة، يعرفون الواقع الاقتصادي المختنق في إيران، لكن الغريب أن هذا لم يمنع رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني، الذي هبط فجأة في بيروت يوم الاثنين الماضي، من أن يعلن بعد مقابلته الرئيس ميشال عون أن بلاده تدعم الحكومة الجديدة، التي ولدت طبعاً من رحم «حزب الله». معرباً عن «استعداد إيران للعمل على تحسين الأوضاع الاقتصادية في لبنان»، وهو ما دفع البعض إلى تذكّر القول: «لا يستطيع أعمى أن يقود أعمى، وإلا وقع كلاهما في حفرة»!
لكن المهزلة لا تتوقف عند عرض من لا يملك ما لا قدرة له على تقديمه، بل إن الزيارة الإيرانية جاءت في وقت كانت بيروت واقعة تحت وابل من التقارير المقلقة التي ترد من الدول الأوروبية وكذلك من الولايات المتحدة، والتي زادت من التشاؤم، عبر التأكيد أن هناك مجموعة من العوامل تجعل من مسألة تقديم المساعدات للبنان مقفلة تماماً، وأن ما يشهده من أزمة متصاعدة حتى الآن هو أخف وأهون بكثير مما سيأتي.
وكان رئيس الحكومة حسان دياب قد استعجل عقد لقاء من سفراء الدول الأوروبية في بيروت، كاشفاً أن لبنان يحتاج إلى مساعدات عاجلة على كل المستويات، مراهناً على القول إن الحكومة وضعت خطة من الإصلاحات التي تتلاءم مع برنامج «مؤتمر سيدر»، لكن دول المجموعة الأوروبية، التي طالما سمعت من المسؤولين في بيروت كلاماً ووعوداً من هذا النوع، توقفت ملياً وبذهول أمام ما جاء في البيان الوزاري، وتحديداً عن موضوع الكهرباء، الذي يشكّل الثقب الأسود الذي ابتلع أكثر من 52 ملياراً من الدولارات تشكّل أكثر من نصف الدين العام الذي لامس 100 مليار، عندما تبنت برامج الحكومات السابقة، ما يشكّل استمراراً في الهدر الذي دمر الاقتصاد اللبناني.
كان من الطبيعي أن تشدد مجموعة الدعم الدولية على أهمية استعادة ثقة الشعب اللبناني والمجتمع الدولي، لتفعيل المساعدات الدولية المستقبلية للبنان، مؤكدة أن المعبر الوحيد إلى هذا هو وضع برنامج جاد وواضح يدعم الإصلاحات التي تصب في المصلحة الوطنية ومصلحة الشعب والبلاد، ومن هنا تبرز التساؤلات، أين مصلحة الشعب اللبناني، الذي يستمر منذ 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي في إعلان الثورة على الفساد والطقم السياسي، ولم يلمس بعد أي خطوة إصلاحية، بل على العكس، وجد أنه يقف أمام المصارف ليتسوّل 200 دولار من ودائعه، في حين تتحدث الأخبار عن تحويلات بمئات مليارات الدولارات إلى الدول الأوروبية، قامت بها مجموعة من السياسيين الذين يملكون تقريباً 40 في المائة من المصارف اللبنانية!
ولعل الأنكى أنه في وقت تقف فيه البلاد على شفير الانهيار، قبل موعد استحقاقات اليوروبوند على الدولة، بداية الشهر المقبل، وقيمتها مليار و200 مليون دولار، وبعدما تدنى سعر اليوروبوند إلى 17 سنتاً مقابل الدولار، وقيل إن أصحاب المصارف اشتروا بالسعر المتهاوي، ويضغطون الآن لكي يقوم المصرف المركزي بتسديد الاستحقاق في موعده ليحققوا أرباحاً خيالية، ودائماً بحجة المحافظة على سمعة لبنان وصدقيته أمام دول العالم، بينما يدعو البعض إلى جدولة تسديد هذا الاستحقاق على قاعدة برنامج إصلاحي حقيقي وواضح ويرتبط بجدولة زمنية لمعالجة أبواب الهدر، وفي مقدمها قطاع الكهرباء الذي أوصل لبنان إلى الإفلاس تقريباً!
«مجموعة الدعم الدولية» تشترط بدء إصلاحات عميقة وخصوصاً في الكهرباء ومحاربة الفساد والتهرّب الضريبي، واعتماد استراتيجية وطنية لوقف الفساد المستشري في أوصال الدولة، وإصلاح القضاء وتطبيق برنامج للمساءلة الكاملة، لكنها تعود دائماً إلى التشديد على حق التظاهر، فيما يشبه التبني الكامل لمطالب الشعب اللبناني، وهو ما كرره ممثل الأمم المتحدة في بيروت يان كوبيتش مراراً على مسامع كبار المسؤولين!
الأهم أن المجموعة الدولية تشترط تطبيق لبنان قرارات مجلس الأمن الدولي، ومنها القراران 1701 و1559 اللذان ينصان على ضرورة حصرية السلاح في يد الدولة، واحترام اتفاق الطائف وإعلان يعيد سياسة النأي بالنفس، لكن زيارة علي لاريجاني جاءت لتوحي أنه من غير الممكن مع حكومة اللون الوحد التي شكلتها الثنائية الشيعية والرئيس عون، الحديث عن إمكان التوصل إلى شيء مما تنصّ عليه هذه القرارات، وأنه من غير الممكن التزام ما تمليه سياسة النأي بالنفس على لبنان، وخصوصاً في ظل الافتراءات والاتهامات التي توّجهها دول الخليج، ومع استمرار انخراط «حزب الله» في المعارك والتدخلات الإيرانية في دول المنطقة!
رغم هذا يكرر رئيس الحكومة أنه يخطط للقيام بجولة عربية، يبدأها من المملكة العربية السعودية، ولهذا حرص الإيرانيون على الإيحاء عبر زيارة لاريجاني أنهم يضعون بصماتهم على السلطة السياسية عبر حكومة اللون الواحد، وأنهم يملكون قراراتهم العسكرية عبر سلاح «حزب الله»، ولهذا ليس غريباً أن يكون الموقف الخليجي من رغبة الحكومة الجديدة بالحصول على المساعدات، متشدداً ومتوازياً مع وقف مجموعة الدعم الدولية، فالمطلوب إصلاح العلاقات على قاعدة أن لبنان بلد عربي من غير المقبول أن يستمر في الانزلاق وراء السياسات الإيرانية، لأن اختلال التوازن لمصلحة إيران يبعد السعودية عن لبنان، والدليل قرارها غداة تشكيل حكومة «حزب الله»، تخفيض أعضاء بعثتها الدبلوماسية في بيروت.
بالعودة إلى موضوع الثقب الكهربائي الأسود الذي ابتلع نصف الدين العام، تبدو الحكومة الآن أمام عاصفة خلافات وانقسامات داخلية عميقة؛ خصوصاً بعدما تبنى البيان الوزاري سياسة الحكومات السابقة التي كانت منذ عام 2010 إلى عام 2019 في يد وزراء من التيار الوطني الحر والرئيس عون، وقام الرئيس نبيه بري قبل أيام بتفجير الموقف، قائلاً إنه «ذاهب إلى إعلان الحرب وهدفه المحدد هو معركة الكهرباء، وإنه لا صوت يعلو فوق صوت معركة توفير الكهرباء بأسرع ما يمكن وبأرخص ما يمكن». ودحضاً للبيان الوزاري، يقول بري إن الحل الأمثل هو بناء معملين دائمين للكهرباء.
وللمقارنة وعلى سبيل مرارة السخرية، فإن مساحة مصر تبلغ 95 مرة مساحة لبنان، ويبلغ عدد المصريين 20 ضعف عدد اللبنانيين، واستطاعت مصر عبر شركة سيمنز أن تبني في عامين معامل تنتج 14400 ميغاواط بكلفة 7 مليارات يورو، بينما يحتاج لبنان إلى 3000 ميغاواط ولم يحصل على نصفها بعدما تكلّف 50 مليار دولار!