سيطر الذهول على سفراء دول الاتحاد الأوروبي وهم يستمعون إلى رئيس الحكومة حسان دياب الذي استقبلهم في السرايا، عندما قال لهم إن لبنان يعرف مدى حرص الدول الأوروبية على استقراره؛ لأن أي اهتزاز في هذا الاستقرار، ستكون له انعكاسات سلبية على أوروبا أيضاً؛ ولهذا فإنه يحتاج إلى مساعدة عاجلة على مختلف المستويات!
نظر السفراء إلى بعضهم بعضاً، وهم يستذكرون باستغراب طبعاً كلاماً مشابهاً، سبق أن سمعته دول المجموعة الأوروبية، من رجب طيب إردوغان عندما هددها بإغراق أوروبا بالمهاجرين، وتذكروا أيضاً كلاماً مشابهاً قاله حسن روحاني الذي هدد أوروبا بالإرهابيين، إن لم تنقذ الاتفاق النووي الذي مزقه دونالد ترمب. لكن يا للغرابة، رئيس حكومة لبنان يحذّر ضمناً الأوروبيين من أي فوضى قد تحدث نتيجة الأزمة الاقتصادية الخانقة، التي تعصف ببلاده؛ وذلك بسبب النهب والفساد والسرقات الأسطورية التي انخرط فيها معظم المستوى السياسي منذ عقدين من الزمن، بما يمكن تالياً أن يؤدي إلى اضطرابات تدفع اللاجئين السوريين إلى الهجرة إلى دول المجموعة الأوروبية.
ومن المعروف أن عمليات الهجرة السورية تسللاً إلى أوروبا، بدأت تحديداً منذ أعوام من شاطئ طرابلس في الشمال.
لم يكن دياب أول من عزف على هذا الوتر الناشز؛ سبقه كثيرون من المسؤولين في بيروت، قبل أعوام وهم يراهنون على أن أوروبا تحرص على مساعدة لبنان، وتعقد المؤتمرات لدعم اقتصاده المتهالك خوفاً من اللجوء، وفي هذا الإيحاء وربما الاقتناع السطحي، احتقار ضمني لدور لبنان ومعناه ودوره السياسي الحيوي على ما يفترض كديمقراطية برلمانية في منطقة تفتقر إلى روح الديمقراطية.
الأكثر غرابة، أن دياب حاول التعمية على السفراء الأوروبيين، الذين يعرفون أبجدية الواقع السياسي اللبناني أكثر منه، عندما قال لهم وبالحرف «تعلمون أن حكومتنا هي حكومة اختصاصيين غير حزبيين، هم فئة من التكنوقراط وقد وضعوا أنفسهم في خدمة إنقاذ لبنان من الأزمات النقدية والاجتماعية والاقتصادية والمعيشية، وتعلمون أيضاً أن حكومتنا جاءت نتيجة ثورة شعبية انطلقت في 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بسبب أوضاع اقتصادية ومالية واجتماعية صعبة، وتبنت هذه الحكومة مطالب الانتفاضة»!
ومرة جديدة، كان من الطبيعي أن يغرق السادة السفراء ليس في الذهول فحسب، بل في غضب مكنون؛ ذلك أن كلام دياب بدا وكأنه عملية استغباء مباشرة وصريحة ومزدوجة لكل منهم، أولاً لأنهم يعرفون جيداً كما يعرف أي مواطن في لبنان، أن حكومة دياب هي حكومة اللون الواحد، وأنها خرجت من رحم الأحزاب، وخصوصاً التحالف بين «حزب الله» وحركة «أمل» و«التيار الوطني الحر»، ويعرفون أيضاً التعقيدات الحزبية والسياسية التي رافقت تشكيلها وحتى المحاصصة فيها.
ثانياً، وهو الأدهى، أنه لم يتردد في أن يقول للسفراء، الذين شقوا طريقهم بصعوبة إلى السرايا وسط مظاهرات الثوار الذين يهتفون رافضين حكومته، إن هذه الحكومة جاءت تلبية للثورة الشعبية وتبنت مطالب الانتفاضة الشعبية، وهذا كلام يجافي الواقع تماماً؛ لأن الثورة في لبنان هي ضد هذه الحكومة وضد الفساد والنهب والهيمنة والسطو السياسي المتوحش على المال العام، وهي التي ترفع شعار «كلن يعني كلن»، أي أن كل الطقم السياسي في البلاد يفترض أن يذهب إلى الحساب والمحاكمة، وهو الطقم الذي استولد هذه الحكومة!
لم يتردد دياب في طلب مساعدة عاجلة على كل المستويات، الكهرباء، والأدوية، والمواد الغذائية، والمواد الأولية، وأن يدعو الدول الأوروبية إلى فتح خط ائتمان ضروري لحاجاته، وأن حكومته وضعت خطة الإصلاحات الضرورية التي تتلاءم مع برنامج «مؤتمر سيدر»، وهو ما يثير الذهول مرة جديدة؛ ذلك أن حكومته بالكاد حصلت على الثقة بطريقة التهريب دستورياً، ووسط حصاد الثورة التي تعرضت للقمع العنيف حيث سقط 45 جريحاً وسجلت 376 حالة اختناق بسبب قنابل الغاز وخراطيم المياه بعدما كانت قد فقأت عيون بعض الثوار بالرصاص عند تشكيلها.
السفراء يعرفون جيداً أنها مجرد كلمات بلا جدوى، على الأقل ليس لأن الوزير إيف لودريان يقول إن لبنان يواجه أزمة مصير فحسب، بل لأن بيار دوكين، سفير الرئيس إيمانويل ماكرون لتنفيذ مقررات «سيدر»، كان قد زار بيروت مرتين، والتقى المسؤولين قبيل اندلاع الثورة، وقال بالحرف «إن لبنان بلد غير قابل للإصلاح»، وفي الزيارة الأخرى قال إن الدول المانحة مستعدة لتنفيذ التزاماتها فوراً حيال مقررات «سيدر»، لكن الدولة اللبنانية لم تضع بعد أي خطة عملية لتنفيذ هذه المشاريع. وغادر وهو يقول وبالحرف أيضاً «لم أجد شيئاً غير سيئ في بيروت»!
وعلى هذا؛ كان الطبيعي أن يخرج السفراء من لقاء دياب بما يشبه الصدمة، فكيف يمكن الحديث عن أن الحكومة وضعت خطة الإصلاحات الضرورية لتنفيذ «سيدر» حتى قبل أن تنال الثقة... غريب فعلاً!
الدليل أنه فور التصويت على نيل الثقة، أصدرت مجموعة الدعم الدولية من أجل لبنان، التي اجتمعت في باريس بياناً يوم الثلاثاء الماضي، دعت فيه الحكومة الجديدة إلى اتخاذ مجموعة من التدابير والإصلاحات الملموسة والشاملة ذات المصداقية بسرعة وبشكل حازم لوقف الأزمات المتفاقمة التي تدهم الشعب اللبناني، بما يعني أن ما قاله دياب عن الخطط والإصلاحات ليس صحيحاً!
المجموعة الدولية أبدت استعدادها لدعم لبنان، لكنها دعت إلى مراجعة ميزانية 2020 التي أقرتها الحكومة بشكل يضمن الاستدامة، وتنفيذ الإصلاحات القطاعية الرئيسية مثل قطاع الطاقة، لكن الصادم فعلاً أن حكومة دياب كانت في بيانها الوزاري قد تبنت خطط الحكومات السابقة حيال الكهرباء، التي من المعروف أنها كبّدت لبنان حتى الآن 43 ملياراً من الدولارات، أي ما يوازي 47 في المائة من الديْن العام الذي بات يلامس المائة مليار، هذا في وقت تزداد ساعات التقنين ويقترب لبنان من العتمة والإفلاس!
ذلك أن قطاع الكهرباء يتطلب دعماً سنوياً يبلغ ملياري دولار، لكن من خزينة خاوية تماماً كما قال وزير المال السابق، إنه «لا يوجد ولا ليرة»، وفي وقت تقع الحكومة تحت طائلة دفع مبلغ مليارين و300 مليون دولار نهاية شهر مارس (آذار)، تسديداً لاستحقاقات اليوروبوند التي أصدرتها والتي لا يمكن دفعها إلا من المصرف المركزي، أي من أموال المودعين اللبنانيين، الذين يقفون صفوفاً أمام المصارف لتسوّل بعض الدولارات من ودائعهم!
كل هذا في كفة وما شددت عليه مجموعة الدعم الدولية في خلاصة بيانها في كفة، عندما دعت لبنان إلى تطبيق قراري مجلس الأمن الدولي 1701 و1559 والقرارات الأخرى ذات الصلة، بما يعني حصرية السلاح في يد الدولة ونزع سلاح «حزب الله»، وكذلك تنفيذ اتفاق الطائف وإعلان بعبدا والنأي بالنفس، وهو ما ليس في وسع حكومة ولدت من رحم تحالف الثنائية الشيعية والرئيس ميشال عون، أن تفكر فيه قبل أن تجاهر به!
المشكلة هنا تعني أن أبواب الدعم والمساعدة مقفلة تماماً في وجه الحكومة، التي تواجه ثورة متزايدة في الداخل قد تصل إلى انفجار المجاعة في البلاد، ورغم هذا يقول دياب إنه ينوي القيام بجولة على الدول الخليجية والعربية طلباً للمساعدة، وكأنه لا يعرف استحالة حصول لبنان على أي دعم، بعدما وصلت الدولة إلى حد التعامي والسكوت عن وجود تلفزيون «المسيرة» التابع للحوثيين وأيضاً تلفزيون «النبأ»، اللذين تديرهما إيران من الضاحية الجنوبية كمنصتين تعملان على مهاجمة المملكة!