عشية قرار الحكومة اللبنانية الامتناع عن دفع ديونها من «اليوروبوندز»، في الأسبوع الماضي، فيما يشبه إعلاناً للإفلاس، بانتظار قرار الدائنين وما إذا كانوا سيقبلون بهيكلة للدين لن تكون بعيدة قطعاً في شروطها، عن القرارات المعروفة التي يفرضها البنك الدولي عادةً، والتي يرفضها «حزب الله» مغلقاً أبواب المساعدة على لبنان، وقف رئيس الحكومة حسان دياب أمام السلك القنصلي في بيروت ليقول كلاماً كان في جوهره إعلاناً للإفلاس وفشلاً نهائياً للدولة اللبنانية، إن لم يكن إعلاناً رسمياً لوفاة هذه الدولة!
كان الكلام نعياً بالمعنى الحقيقي، عندما قال بالحرف: «بكل صراحة، لم تعد الدولة اللبنانية في ظل واقعها الراهن، قادرة على حماية اللبنانيين وتأمين الحياة الكريمة لهم، وبكل شفافية فقدت هذه الدولة ثقة اللبنانيين بها، وبواقعية، تراجع نبض العلاقة بين الناس والدولة إلى حدود التوقف الكامل، واليوم نحن أمام معضلات كبرى»!
كان المقصود في حينه الاقتصاد، رغم أن رياح «كورونا»، كانت بدأت تعصف بلبنان، قال: «إن الدولة مكبلة بقيود الطائفية الصدئة وجنازير الفساد المحكم»، قاصداً استشراء الفساد والنهب اللذين أوصلا البلد إلى الإفلاس عملياً، لكن لم يكن واضحاً في حينه أن لبنان سيساق سريعاً إلى الإفلاس مرتين؛ الأولى إفلاس مالي اقتصادي كما هو واضح تماماً، والثانية إفلاس صحي كوروني كما تبيّن سريعاً في الأيام الماضية.
يوم الأربعاء الماضي بدت الدولة اللبنانية في غيبوبة كاملة، كمن يعاني من «كورونا سياسية»، أولاً عندما تبيّن أنها واصلت التعامل بما دون الحد الأدنى من المسؤولية الوطنية الصحية، تحديداً في وقت يرتعب العالم من أقصاه إلى أقصاه من وباء «كورونا»، ويتخذ أقصى الإجراءات الطبية الاحترازية لحماية الناس، بينما استمرت حال الفوضى الفالتة في مطار بيروت وحتى على الحدود البرية بين سوريا ولبنان.
كان من المثير تماماً أن يقف دياب، قبل يومين بعد اجتماع طارئ للجنة «كورونا» الوزارية، ليعلن أن لا حاجة إلى إعلان حال الطوارئ، في حين كانت مؤسسات إعلامية وهيئات مدنية عدة قد أذاعت مثلاً النصّ الآتي: «أنا المواطن اللبناني أتعهد عدم الخروج من المنزل والتجوّل إلا لحاجات الضرورة القصوى وذلك لتجنب التقاط عدوى وباء (كورونا) ونقله، كون العدوى تنتقل من إنسان إلى إنسان، وبالتالي إنني أمارس حقي ولست في حاجة لانتظار تعميم أو قرار من وزير أو حكومة للقيام بالواجب الوطني»!
عملياً كان هذا، إضافة إلى تعميم بعض وسائل الإعلام شعار «خليك بالبيت»، إدانة صارخة لحكومة في مستوى الفضيحة، ذلك أنه قُبيل ساعات من كلام رئيسها حسان دياب، كانت قد سمحت، رغم ارتفاع عدد المصابين بالوباء في «مستشفى رفيق الحريري الحكومي»، وهو الوحيد المجهّز لاستقبال المصابين، بهبوط طائرة من ميلانو تحمل على متنها 64 راكباً، رغم معرفتها (إذا كانت تعرف فعلاً) أن الحكومة الإيطالية كانت قد قررت قبل يومين، عزل ميلانو والمنطقة الشمالية من البلاد الموبوءة، ومنعت وصول أي طائرة مثلاً من ميلانو في الجنوب، لكنك في مطار بيروت الذي يفتح ذراعيه لاستقبال الذين يصلون من المناطق الموبوءة.
رغم إعلان دياب، الأربعاء، طلب وقف الرحلات من وإلى إيطاليا وكوريا الجنوبية وإيران والصين، وصلت مساء ذلك اليوم طائرة من طهران حاملة 168 راكباً، رغم كل الصراخ منذ الأسبوع الماضي بضرورة وقف وصول الطائرات من إيران بعدما عُدّت بلداً في مرحلة الوباء، وبعدما كانت أول إصابة قبل أسبوعين وصلت من هناك وخرج الركاب إلى بيوتهم دون أن يخضعوا لعزل صحي، كما يقول الذين يصلون إلى مطار بيروت، ويصابون بالذهول لعدم تعرّضهم لفحص مدقق أو للعزل كما يجري في البلدان الأخرى.
عندما أعلن دياب، يوم الأربعاء، أن لا حاجة إلى إعلان حال الطوارئ وأعطى مهلة أربعة أيام للبنانيين الراغبين في العودة، كان واضحاً تماماً أن خط طهران بيروت الذي لم يتوقف رغم انتشار الوباء في إيران، سيبقى ناشطاً لأن الحكومة السعيدة تتلقى توجيهاتها في هذا الشأن من «حزب الله» الذي خرجت من رحمه.
لكنّ الأمور لا تتوقف على المطار، فالحدود اللبنانية السورية فالتة تماماً، بشهادة صحيين أعلنوا ذلك صراحة، وفي الأيام الماضية كان عدد من الطلاب اللبنانيين قد وصلوا من إيران إلى دمشق وانتقلوا إلى بيروت، ويقال إن الإجراءات الصحية هناك بدائية، إضافة إلى أن الحافلات لا تتوقف بين البلدين رغم كل شيء!
قال دياب إن السفراء يهنّئون الحكومة على الإجراءات التي يتخذها لبنان لمواجهة وباء «كورونا»، لكن كلامه المستغرَب جاء في وقت تساءل وليد جنبلاط: «إلى متى طائرات الموت الموبوءة... يبدو أن الوباء سينتشر متخطياً كل الحدود، فإلى متى يبقى مطار بيروت يستقبل من الشرق والغرب الطائرات الموبوءة»؟!
أما سعد الحريري فقال: «إذا كانت القضايا السياسية والاقتصادية محل خلافات تحتمل الاجتهاد والتباين، فإن خطر فيروس (كورونا) يستدعي عدم التردد في اتخاذ الإجراءات التي تحمي المواطنين… أقفلوا الأبواب بوجه (كورونا) من أي دولة صديقة أو بعيدة، ولتكن سلامة اللبنانيين فوق كل اعتبار». وبدوره دعا الدكتور سمير جعجع، إلى إعلان حال الطوارئ، في حين طُرحت في الكواليس تساؤلات مستهجنة حول استمرار الحكومة في القول للشعب اللبناني المذعور إنه لا داعي إلى الهلع!
ولعل هذا ما دفع الكثيرين إلى التساؤل عما إذا كان «حزب الله» هو الذي يفرض على لبنان العزل الأمني والعراضات الصاروخية، ويزج البلد في حروب المنطقة وصراعاتها المعادية لطبيعة عروبة لبنان، وإذا كان أيضاً يعزل لبنان في الإفلاس السياسي عربياً ودولياً، عبر فرض هيمنته على تشكيل الحكومة وفرضه بالقوة مساراتها السياسية كما هو واضح تماماً.
ثم إذا كان يعزل لبنان اقتصادياً، عبر موقفه الرافض لأي حلول من طريق البنك الدولي، وهو ما سيقود بالتالي إلى فرض الضرائب التي لا تخرج عن توصيات هذا البنك، ويواصل حملته المعروفة على المصارف والبنك المركزي، لمجرد أن لبنان مضطر إلى أن يمتثل ولو نسبياً للعقوبات الأميركية، التي لم تستطع إيران نفسها التملص منها، فهل من الضروري أن يسهم موقفه من الانفتاح الأقصى على إيران رغم الخوف من وباء عدوى «كورونا» في عزل لبنان وإفلاسه صحياً؟
مشكلة «كورونا» في لبنان تتطلب إعلان حال طوارئ حازمة جداً، ليس لأن عدد الوفيات وصل يوم الخميس إلى ثلاثة، وليس لأن عدد المصابين تجاوز 68 مصاباً، وهو رقم مرتفع جداً قياساً بعدد السكان، ولكن لأن «كورونا» يضرب بلداً مفلساً ليس بالمال فحسب، والفحص يكلّف 150 ألف ليرة، ونصف اللبنانيين في البطالة ونصفهم يتسولون المائة دولار من ودائعهم،، وليس لأنه ليس لديه سوى «مستشفى رفيق الحريري الحكومي» الذي يختص بالعلاج والعزل الصحي، ولأن تحضير أربعة مستشفيات خاصة لاستقبال المصابين لن يتمكن من أن يجد في العالم أجهزة تنفس صناعي، بعدما عجزت الصين عن تأمين مليوني جهاز لمنطقة ووهان... بل لأن المسؤولين في الدولة السعيدة يقولون «لا داعي للهلع ولا لإعلان حال الطوارئ»، وللبناني رحمة الله سبحانه وتعالى!