بقلم - آمال موسى
دائماً ينحصرُ حديثنا عن المؤسسات الاقتصادية في الدور الاقتصادي وتحريك عجلة الاستثمار وكيفية تجاوز هذه المؤسسات لأزماتها وما الذي يشجعها على الاستثمار أكثر من ناحية التشريعات والحوافز التي يمكن أن تضعها الدولة على ذمتها.
طبعاً مثل هذا الحديث أو توجهات الخطاب العام حول دور المؤسسات الاقتصادية والمالية في التنمية والاقتصادات الوطنية ضروري ومهم، ولا يفتقد الوجاهة، باعتبار أن اليوم لا يمكن الاستمرار في الاعتماد فقط على القطاع العمومي، والحال أن الدور الأكبر يُلقى على عاتق المؤسسات الاقتصادية التي أصبحت شريكاً أساسياً في امتلاك الثروة وفي قيادة الاقتصاد وتحديد بوصلته.
غير أنه في مقابل ذلك هناك مسؤولية أخرى لا نتناولها إلا لماماً، وهي المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات الاقتصادية الكبرى، أي إسهام هذه المؤسسات في حل المشكلات الاجتماعية وفي الانخراط في إيجاد حلول عملية تهم فئات حساسة في المجتمع ولا مفر من الاهتمام بها، لأنه في الاستهانة بها خطر على الأمن الاجتماعي في المديين القريب والطويل، وهو ما يؤثر على البيئة العامة في أي بلد، ويجعل من الاستثمار وتراكم الثروة وفتح الآفاق محفوفاً بالتهديدات والأخطار.
وما نلاحظه هو أن الانخراط في ثقافة المسؤولية الاجتماعية ما زال ضعيفاً ومن المواضيع المسكوت عنها، والحال أن المؤسسات الاقتصادية والمالية في بلداننا العربية قادرة من خلال دورها المجتمعي على أن تخفف الكثير من المشاكل وتربح في الوقت نفسه مصداقية أكبر وقرباً من المواطنين، وهو مسلك تقوي به هذه المؤسسات جاذبيتها ووظيفتها التي ستصبح ليست اقتصادية فقط بل مجتمعية أيضاً، ما يفتح أمامها فرص الربح المختلفة الأبعاد، إضافة إلى ما يعنيه ذلك من تأمين عملي وتحصين للبلد الذي تستثمر فيه.
ولعل الانخراط في التحديات الكبرى التي تهم الطفولة والشباب والمرأة اليوم، من المسالك التي يمكن للمؤسسات الاقتصادية الكبرى أن تلعب فيها دوراً كبيراً. ذلك أن النقص الحاد في المحاضن ورياض الأطفال والمدارس والتكوين بالنسبة إلى الشباب، يمثل ملفات حارقة بانتظار تدخل المؤسسات الاقتصادية، حيث إن الدولة اليوم في غالبية بلداننا غير قادرة بمفردها على توفير كل ما يلزم ووفق معايير الجودة، في حين أن مشاركة المؤسسات المالية والاقتصادية الكبرى سواء من خلال فتح رياض أطفال للعاملين فيها ونوادٍ للأسر أو من خلال تجهيز رياض أطفال تابعة للدولة أو بناء رياض أطفال ومدارس في المناطق الفقيرة والمهمشة... كل هذا سيجعلها مؤسسات اقتصادية ذات مسؤولية اجتماعية.
وفي هذا الصدد نتساءل: لماذا هذا التقاعس في أداء الوظيفة المجتمعية والحال أن هذه المؤسسات هي أكبر مستفيد من بيئة اجتماعية مستقرة ومحصنة ضد الظاهرة الاجتماعية المعرقلة للاستثمار والمانعة له؟
نطرح هذا السؤال لأن الطفولة المهمشة تعني شباباً منحرفاً ولقمة سائغة في أيادي بارونات التكفير وثقافة الانغلاق والقتل. بمعنى آخر فإن مصلحة المؤسسات المالية والاقتصادية تكمن في التحصين الاجتماعي وفي أداء الوظيفة الاجتماعية في القطاعات الحساسة التي ستدفع تكلفة التهميش وعدم العناية المبكرة لها.. من دون أن ننسى أن هذه التكلفة سيدفعها الجميع بلا استثناء وهي باهظة جداً.
من هذا المنطلق، فإن قيام أي مؤسسة تُصنف كبرى بدورها فيما يُعبر عنه بالمسؤولية المجتمعية، إنما هو الوجه الآخر للاستثمار وهو مكمل له وداعم له. ونعتقد أنه قد آن الأوان كي يُولي الإعلام العربي هذه المسألة وكي يبرز المؤسسات التي تقوم بهذا الدور لما يعنيه هذا الإبراز من إحراج للمؤسسات المستقيلة التي تغض الطرف عن هذه المسألة الحيوية. ذلك أن هناك مؤسسات رائدة في هذا المجال ومنخرطة في التحديات الوطنية وتخصص الاعتمادات المالية لذلك.
ومن المهم الإشارة إلى أن المقاربة التي تقوم على المسؤولية الاجتماعية لن تنجح إلا إذا فهم أصحاب هذه المؤسسات أن الانخراط في هذه الوظيفة يمثل ربحاً كبيراً وحقيقياً، أي أنه ليس سليماً ولن ننجح إذا تم التعامل مع هذا الدور بدون اعتقاد واضح وعميق كما هو الحال في البلدان المتقدمة التي تؤدي فيها المؤسسات الاقتصادية الكبرى دوراً كبيراً في هذا المجال، وهو سبب من أسباب قوتها وانتشارها.
إن الانخراط اليوم في أي مجال من المجالات من المهم أن يكون انخراطاً حاملاً للمصداقية، ألا نمارس الاختيار حسب ما نعتقد أنه مصلحة: أي لا نختار من الدور الاقتصادي الكبير إلا الربح المالي وكيفية تحقيق أعلى درجة من الربح وإهمال الجوانب الأخرى، ذلك أن تجارب العالم المتقدم التي أنتجت وحوشاً اقتصادية كاسرة لم تغفل عن ضرورة أن يكون لكل وحش مالي مسؤولية اجتماعية، وليس من السذاجة أو المثالية الانتباه إلى هذه الوظيفة، بل إنها عين الذكاء الاقتصادي الذي يحصن البيئة التي تنتج فيها الثروة.