بقلم : د. آمال موسى
هناك حراك سياسي فكري لافت يجتاح أوروبا ويحتاج منا إلى وقفة جادة للقراءة، والفهم، وبناء خلاصات تبدو لنا في غاية من الأهمية والخطورة. فبعد الانتخابات الألمانية الأخيرة تجاوز صعود اليمين المتطرف أو أقصى اليمين في دول أوروبية عدّة؛ كونه ظاهرة سياسية لا أكثر ولا أقل؛ إذ إن ألمانيا التي ظلت رغم الصعود المذكور أقل دولة يتحرك فيها اليمين المتطرف بأريحية، تغير فيها الوضع بعد الانتخابات التشريعية مؤخراً ورأينا حصول حزب «البديل من أجل ألمانيا» (الذي يطلق عليه الحزب النازي الجديد) وبشكل غير مسبوق على أكثر من 20 في المائة. بل إنه أصبح بهذه النسبة متقدماً في الموقع السياسي على الحزب الاشتراكي الذي كان يقود التحالف الحاكم في ألمانيا. طبعاً لم يربح حزب «البديل من أجل ألمانيا» الانتخابات، لكن تحصّل على نسبة غير مسبوقة بالمرة، وهذا دليل على أن المجتمع في ألمانيا عادت الأفكار اليمينية العنصرية تستهويه، رغم كل الفواتير الباهظة الثمن التي دفعها بعد الحرب العالمية الثانية وتواصلت سنوات عدة.
إننا أمام تأكيد نوعي جداً لصعود اليمين المتطرف في أوروبا، القارة التي توصف بكونها قارة الديمقراطية. وهي كذلك لأنها شهدت الثورة الفرنسية وقبلها عصر الأنوار وقيم العقلانية والحداثة وقيم الجمهورية.
كي نفهم خطورة هذا الصعود الكاسح لليمين المتطرف في أوروبا، من المهم تأكيد أن الأمر لم يعد ظاهرة وأنه أصبح أمراً واقعاً، ما فتئ يتأكد بشكل يبين أن أوروبا تعرف زلزالاً سياسياً، وأن صعود اليمين المتطرف عدوى انتشرت في أعتى ديمقراطيات أوروبا: إيطاليا يحكمها حزب فاشي وفي فرنسا حزب مارين لوبان الذي كان مجرد حزب ديكور لا دور له ولا صوت وليس وزن سياسي أصبح الحزب الأول في فرنسا، وهذا في حد ذاته أقوى خضّة سياسية في فرنسا منذ تاريخ الحرب العالمية الثانية. وطبعاً لا ننسى في هذا السياق أن الحزب الأول في المجر هو يميني متطرف، وفي فنلندا صعود اليمين المتطرف والشيء نفسه في السويد والنمسا. وكل هذا يظهر حقيقة أن الخارطة السياسية في أوروبا بصدد التغير لفائدة الأحزاب اليمينية وهو مسار لا يخلو من دلالات خطيرة.
لا شك في أن هذا الصعود اليميني أو ما يمكن أن نصفه بالعصر الذهبي للأحزاب اليمينية هو نتاج أسباب أدت إلى حصوله. ولعل من أهم هذه الأسباب هو فشل الأحزاب الأوروبية التقليدية التي تحكم أوروبا منذ عقود في إشباع توقعات الشعوب الأوروبية وتراجع دورها وجاذبيتها، إضافة إلى التأثير القوي للحرب الروسية - الأوكرانية وتداعياتها الاقتصادية التي أثرت على الوضع الاقتصادي للمواطن الأوروبي. والواضح أنها أسباب مادية اقتصادية بالدرجة الأولى. لكن، ما يهمنا في هذا الصعود ليس أسبابه بقدر ما تعنينا تداعياته على الجاليات العربية والمسلمة، خصوصاً أن أطروحات الأحزاب اليمينية تنتعش من معاداة الأجانب والخوف من المهاجرين والخطاب العنصري ضدهم.
إذن، المشكل الأساسي يكمن في أنه وراء صعود أحزاب اليمين عودة وانتعاشة قوية لآيديولوجيات عنصرية ولإرث الثقافة الاستعمارية القائم على فكرة التفاضلية الحضارية وتفوق الرجل الأبيض.
إن هذه التحولات الخطيرة في الخريطة السياسية الأوروبية ذات تداعيات على جالياتنا الكبيرة العدد وأيضاً على العلاقات الدبلوماسية، ومن المهم أن نستحضر هذه التحولات في وضع سياساتنا، والوضع في الحسبان أن الهجرة حتى المنظمة والنظامية ستخضع إلى مقاربة أكثر تشدداً مما هي عليه الآن، خصوصاً بالنسبة إلى دول أفريقيا.
من الواضح أن الأزمات الاقتصادية تلقي بظلالها على الوضعين السياسي والآيديولوجي وتأخذ أوروبا الداعية إلى الحرية والديمقراطية إلى الانغلاق والعنصرية، ولا ندري إن كان هذا الأمر تأزماً عابراً تعيشه أوروبا وستشفى منه عاجلاً وتستعيد رأسمالها الرمزي الإيجابي، أم أن الآيديولوجيات المتطرفة التي ظن المفكرون أنها ماتت إلى الأبد ما زالت تنبض تحت الرماد وتنهض لحظة التأزم الاقتصادي.
إن أوروبا أو الرجل الأبيض المريض في محنة وامتحان. أما الجاليات العربية والمسلمة حتى التي قاربت الجيل الثالث لها في الديار الأوروبية هي مقبلة على مستقبل قد يتنفسون فيه برئة واحدة. في حين أن حديثي الهجرة فأغلب الظن أن فكرة العودة إلى أرض الوطن والكفاح من أجل حياة لائقة ستخامرهم بقوة الواقع الجديد.
لقد بدأت أبواب مدائن العالم تنغلق الواحدة تلو الأخرى من دون أن ننسى أنها منذ سنوات أبوابها مواربة في وجوهنا.