بقلم: د. آمال موسى
قد تبدو فكرة أن الاقتصاد مجبول على تلبية حاجيات الناس بسيطة وعادية ولا شيء جديداً فيها بالنسبة إلى الكثيرين. ولكن ليس كل ما يبدو بسيطاً هو سهل التحقيق، بدليل أن غالبية اقتصادات العالم تعاني من مشاكل، ومن حاجات غير مستجابة.
من ناحية أخرى تتأتى السهولة الحقيقية عندما نذهب إلى التجسيد الفعلي؛ فكم من فكرة تبدو واضحة جداً وتعترضها في التطبيق ويلات الغموض والتعقيد.
لذلك، فإن الاقتصاد كعلم ومبادئ ونظريات شيء، والواقع المتغير في مشكلاته وحاجيات الناس شيء آخر، وكل السر يكمن في التأليف الواعي والفاهم والقادر على الربط المحكم بين المفاهيم الاقتصادية وتحولات الواقع بأبعاده كافة، وتحديداً حاجيات الناس وما يتغير في مسار تلبيتها.
سأوضح الفكرة: مثلاً الناس يحتاجون إلى الماء والكهرباء والغاز الطبيعي للعيش والعمل والتنمية. هذه الحاجة تعترضها اليوم مشكلات، أهمها تراجع المخزون بسبب كثرة الاستهلاك وتغير نمط الحياة الذي أصبح في ارتباط عضوي بمصادر الطاقة. ولم يعد خافياً أن هناك أزمة طاقة في العالم اليوم، وفي أبسط الحالات هناك مشكل. ومن لم يبلغ بعد مستوى المشكل، فإنه معرض لذلك مستقبلاً. ورغم وجود الأزمات والمشاكل في تلبية هذه الحاجيات اليوم، فإنه لا مفر من تلبيتها، لأنها ضرورة حياتية وتنموية. لذلك فإن تلبية هذه الحاجيات في ظل تراجع مخزون الطاقة، بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا، يتطلب ابتكار حلول جديدة، وفي هذا السياق تندرج طاقات بديلة، كالطاقة الشمسية مثلاً، أضحت اليوم بدائل اقتصادية ومجال استثمار اقتصادي، آخذين في الاعتبار أيضاً أن العالم لن يتخلى عن النفط والغاز. ولكن ككل عمليات الانتقال، فإن العملية ليست سهلة، وتتطلب نخباً تقوم بالتفسير والتوضيح؛ فالتشجيع على استخدام الطاقة الشمسية كبديل للكهرباء هو عمل يصب في صالح الاقتصادات التي تواجه مشكلاً في تزويد الناس بالكهرباء والغاز الطبيعي.
إن الاقتصاد الناجح ليس الذي يضمن للشعب الوفرة اليوم، ولا شيء غداً، بل إن الحكمة الاقتصادية هي التي تنتبه إلى الطارئ في مسار تلبية الحاجيات الأساسية، وتعمل على إيجاد حلول بديلة، والاستفادة من ذكاء الاقتصاد العالمي الذي كان سباقاً في رسم فلسفة كاملة لذلك. ونجد هذه المقاربات الجديدة للطبيعة وطاقاتها التي لا تتجدد، والأخرى القابلة لتكون متجددة حاضرة.
لقد حان الوقت كي ندرك بشكل بسيط للغاية أن كل بلد يرسم أولوياته الاقتصادية بناء على الحاجيات الأساسية لمواطنيه مع رصد دقيق وعلمي للتهديدات التي تقلق تلبية أي حاجة من تلك الحاجيات كي يتم التركيز على إيجاد حلول لها من خلال جعل المشكلة أفقاً جديداً للاستثمار، وهذا ما نجح فيه البعض الذي أصبح يستثمر في تكنولوجيات جديدة ويولي رهاناً كبيراً للمؤسسات الناشئة، وكلها حلول جاهزة كأفكار ورؤية ويمكن أخذ منها ما يناسب كل مشكلات أي اقتصاد ودولة ومجتمع.
فالفضلات التي تمثل في بلدان عدة اليوم مشكلاً هي في بلدان أخرى تخضع لإعادة التدوير وإعادة إنتاج، أي أنها أصبحت مجال عمل واستثمار وحلاً.
إن مؤتمر «تيكاد 8» الذي احتضنته تونس، السبت والأحد الماضيين، والذي عرف نجاحاً يُحسَب لتونس ولأفريقيا وللعالم العربي، إنما شكل فرصة لمعاينة مجالات التنمية الجديدة في العالم اليوم، وكان بمثابة المرآة التي يمكن من خلالها انتقاء ما يمكن أن تكون أي دولة معنية به، ولها مشكل اقتصادي فيه. ومن الواضح اليوم أن العالم يعيش على وقع مشكلات مشتركة، مع تفاوت في الإمكانيات والموارد.
وتكمن قدرة أي اقتصاد في التمييز بين مشكلاته الخاصة والمشكلات المشتركة بين اقتصادات العالم، من دون أن ننسى أثر الأزمات والحروب في تعميق المشكلات الاقتصادية. ولعل تكلفة الحرب الروسية الأوكرانية مثال قوي دامغ، باعتبار ما جنته هذه الحرب على معظم الدول من إرباك اقتصادي كبير، في مجال المحروقات والحبوب، وغيرهما.
في المدى القريب، سنطوي صفحة الحديث عن التخلف الاقتصادي، وسيتبنى العالم بكل قوة الواقع مفهوم الوجود الاقتصادي من عدمه، وهو وجود مرتبط بالوجود نفسه، أي إما أن تكون موجوداً أو غير موجود. فحتى الطبيعة بدأت تمارس الشح عقاباً للإنسان الذي أهدر ثرواتها اعتقاداً أن الثروات الطبيعية والطاقة كنز لا يفنى.
وحتى الماء الذي يمثل غالبية كوكب الأرض، هناك أزمة كبيرة تشمله، والاستثمار أصبح في تحلية مياه البحار. أشياء كثيرة بصدد التغير، ومن فترة طويلة أيضاً.