بقلم - آمال موسى
هناك حقائق لا يمكن تحديد أهميتها بشكل حقيقي وملموس إلا إذا خضعت للتجربة. وهو مبدأ يمكن تعميمه على أفكار شتى. من هذه الحقائق القول بأهمية النزول إلى الميدان وإلى ما يسمى أرض الواقع، حيث إن الميدان وحده القادر على التمحيص وعلى التعرف إلى الواقع عن قرب. بمعنى آخر، فإن النزول إلى أرض الواقع يمثل غنيمة حقيقية من ناحية القبض على المعلومات والمعطيات الكفيلة بتعديل الحقيقة وتقديم صورة أمينة عن الواقع بعيداً عن الطوباويات.
لذلك، فإن النزول إلى الواقع يمثل في حد ذاته مقاربة ونمطاً من أنماط المعالجة والتدخل والفهم. وإذ نشير إلى مسألة الفهم فلأنها أساس وضع التفسيرات والحلول وبناء المقترحات وتحديد السياسات كي تكون ذات نجاعة وتأثير.
بالنسبة إلينا في المجتمعات العربية، فإن هذه المقاربة لم تتحول إلى نمط ثابت في المعالجة، حيث إنها لا تزال مرتبطة بالأشخاص أكثر منها توجهات عامة وطريقة في التعرف على المشكلات وتقديم الحلول. فنجد سياسياً قريباً من الناس ويعوّل على الميدان والشارع لقياس النبض والإنصات، ونجد في المقابل من يزعم أن الواقع معروف وأن المشكلات محددة عالمياً ودوره تنزيل التوجهات العالمية في بلاده. وهنا نطرح سؤالاً حول ما إذا كان يوجد واقع واحد يشمل جميع الشعوب أم أن لكل مجتمع واقعه وخصائصه التي لا بد من أخذها أولاً بعين الاعتبار قبل الانفتاح على أي سياسة أو الالتزام بأي استراتيجية.
طبعاً النزول إلى الواقع لا يعني البتة عدم الانفتاح والانخراط في التوجهات الأممية، خاصة في مجال التنمية المستدامة، ولكن لن تؤتي هذه الاستراتيجيات أكلها في صورة التطبيق الأعمى والفوقي لها.
من هذا المنطلق، فإن اعتماد منهجية النزول إلى الأرض هو المفتاح باعتبار أنها المحددة للأولويات، وساعتها يمكن بلورة التفاعل على أسس صلبة وضمان التواصلية الإيجابية.
السؤال الثاني: مَن المعني أكثر في بلداننا باعتماد منهجية النزول إلى الأرض؟
يبدو لنا أن رجل السياسة والإعلامي والباحث هم أكثر الأشخاص المعنيين بهذه المنهجية. فاليوم تعرف بلداننا في غالبيتها رياحاً إصلاحية وهناك انتباه مخصوص يختلف من بلد إلى آخر إلى معنى المواطنة وفكرة أن المواطن هو المحور وهو الفاعل وهو الهدف. ومثل هذه الخيارات التي تعتقت مع التجارب التي عاشتها مجتمعاتنا بنجاحاتها وإخفاقاتها، إضافة إلى انخراط العالم في توجهات موحدة تجعل من نزول المسؤول السياسي إلى أرض الواقع ضرورة لبناء الثقة ولتوطيدها ولتجسيد ثقافة القرب من المواطن والإنصات إلى مشاغله. ويكشف لنا التاريخ أن الساسة الذين كانوا ينزلون إلى الشارع هم الأكثر قرباً من العهود الأولى لنشأة المدينة العربية والإسلامية.
كما أن الانتقال من النظام الشمولي إلى النظام الأكثر مشاركة سياسية والدخول في زمن المجتمع المدني والتعددية السياسية. كل هذا يقوي من توجه سلطة المواطن، ما يجعل من القرب منه أفضل المقاربات. كما لا يفوتنا أن القرب يعني جودة الإنصات وملاحظة الواقع بالعين المجردة.
أيضاً الإعلامي الجيد ليس الذي يكتفي بالنقد والتنظير والدفاع عن الآيديولوجيات، بل إن العمل الميداني هو الذي يضمن للعمل الإعلامي الجماهيرية، وذلك يظهر من كثافة استعمال الأشكال الصحافية مثل الريبورتاج والتحقيق الصحافي والتحقيق الاستقصائي. فالوسيلة الإعلامية التي تؤثث برامجها بالأعمال الصحافية الميدانية تحرص على حضور المواطن والتحقيق في الظواهر الاجتماعية والمشكلات التي يعرفها المواطنون بشكل عام. من جهة ثانية، فإن العمل الميداني يضمن جودة العمل الإعلامي ومصداقيته، وأيضاً يجعل من دور الإعلام أكثر وظيفية في التنمية والتغيير الاجتماعي والنقد وتسليط الضؤ على مناطق الخلل والعطب في المجتمع والمؤسسات والممارسات بمختلف أنواعها وأبعادها.
الطرف الثالث المعني بمزايا النزول إلى الواقع لجمع البيانات هو الباحث. فالبحوث اليوم تغلب الدراسة الميدانية واستقراء الواقع بناء على استنطاق عناصره ومكوناته سواء في كليتها أو من خلال طرق العينات. وتكتسي هذه البحوث أهمية مخصوصة لأنها تنطلق من الدراسة الميدانية وتعود إلى مجتمع البحث ذاته وهو تمشٍّ مهم جداً في تأمين الفهم والتفسير اللازمين لأي بحث تحركه حيرة معرفية حقيقية. وهنا يظهر الدور الاجتماعي للبحوث، حيث إنها تأخذنا إلى الواقع بأدوات علمية موضوعية متفق حولها وتضمن أكثر ما يمكن من علمية مع وعي عميق بنسبية كل العلوم بما فيها الموصوفة العلوم الصحيحة.
بيت القصيد ومربط الفرس كما يقول أجدادنا: من المهم أن يكون الواقع هو أساس توجهاتنا وقراراتنا وسياساتنا ومشاريعنا. فالنزول إلى الواقع هو الضامن أننا في الطريق الصحيح وهو الذي يقطع مع كل الشعارات التي فقدت مصداقيتها.
لذلك، فالناجحون اليوم هم الذين لا يخافون الواقع ويجيدون التحرك في أرض الواقع ويمتلكون مهارتي الملاحظة والإنصات.