بقلم : آمال موسى
لا يقتصر انفتاح مجتمعاتنا على العالم والانخراط فيه على الجانب الاقتصادي والتبادل الثقافي فقط، بل إن الانخراط الفعلي يتمظهر في مدى إيجابية التفاعل مع القوانين الدولية ذات الطابع الطلائعي التنموي التي تعبر عنها الاتفاقيات والمعاهدات والقرارات ذات الطابع الأممي.
ولا يخفى أن بلداننا بدأت تستوعب منذ سنوات شروط الانخراط العالمي، وتفاعلت مع شروط هذا الانخراط بدرجات متفاوتة حاولت فيها كل دولة عربية مراعاة خصوصيتها الثقافية والمجتمعية.. مع ملاحظة أن نسق التفاعل خلال العشرية الأخيرة شهد وتيرة سريعة وخطوات نوعية مهمة.
ولعل المرأة بما باتت تمثله من مركز اهتمام في بلداننا حتمته قطف ثمار الرهان على التعليم ونهج سياسات تحديثية، أصبح مركز الاهتمام هذا من المسائل ذات الحراك في مستوى التشريعات والمشاركة السياسية والدبلوماسية ومجلة (قوانين) الأحوال الشخصية... كل هذا يسمح لعلاقة المجتمع والمرأة في بلداننا بأن تتخذ، علاوة على النضالية النسائية والإرادات السياسية في غالبية دولنا، من المرجعيات الحقوقية الدولية سنداً لها من أجل الاستفادة وتنزيلها في التجارب الوطنية العربية.
من هذه القرارات التي تمثل عامل تعزيز لحقوق المرأة في مجتمعاتنا نشير إلى القرار الشهير 1523 الذي تحتفل منظمة الأمم المتحدة بالذكرى 21 لصدوره، وذلك بوصفه أول قرار عن مجلس الأمن، من أجل تعزيز وجود قيادات نسائية على المستويين الوطني والمحلي، وأيضاً ما يرمز إليه من انتباه إلى الأدوار والممارسات الجيدة التي تراعي النوع والقابلة - أي الأدوار والممارسات - للبناء عليها وتعميقها وتأطيرها بالمنجز والمنشود معاً على مستوى التشريعات وآليات الحماية والتوعية.
وكما هو معروف، فإن الأمم المتحدة أصدرت القرار 1523 سنة 2000، وأهم إنجاز عبر عنه هذا القرار هو الاعتراف بأن النساء هن ضحايا الحروب والتوترات والنزاعات، وتبعاً لذلك فهن صاحبات مصلحة في أن يتحولن إلى فاعلات في إحلال السلام والتأثير وإشراكهن في فض الصراعات وفي عملية صنع القرار وحمايتهن من خلال تمكينهن وإدماجهن في التدريب وحفظ السلام.
إن من خلال قراءة متمعنة في القرار 1523 حول المرأة والأمن والسلم الذي تكمن أهميته في كونه أداة قانونية لحماية النساء في النزاعات المسلحة، علاوة على ما ينطوي عليه من اعتراف قانوني صريح بالتأثير الخاص للنزاعات على النساء، يمكن تلخيص فلسفته في أنه قرار يهدف إلى نقل المرأة من وضعية ضحية النزاعات والحروب إلى فاعلة رئيسية في صنع السلام والأمن في العالم، وذلك من خلال تمكينها اجتماعياً وتشريعياً واقتصادياً، ومن ثم وبفضل التمكين متعدد الأبعاد تصبح المرأة محل رهان الإنسانية والعالم في صنع الأمن والسلم.
إذن نحن أمام قرار هو الأول من نوعه، حيث يربط أمن العالم وسلامه بمشاركة المرأة، ويتعامل مع الطابع الضروري لهذه المشاركة النوعية في عملية صنع القرار بوصفها حلاً لمظاهر عدة من معاناة الإنسانية بسبب النزاعات المسلحة والتوترات والأزمات، خاصة أن الوقائع أظهرت أن النساء هن أولى ضحايا النزاعات ومناطق بؤر التوتر. وفي خضم هذا التشخيص المتراكم تتنزل بنود القرار 1523 الداعية إلى زيادة مشاركة المرأة في تجنب النزاعات أولاً ثم في حماية الأوطان والمحافظة على السلم الأهلي في حالات عدم الاستقرار وصعوبات التعايش متعددة الأبعاد وفي عمليات معالجة الصراعات والمفاوضات. كما يهدف القرار إلى تمكين النساء من تعزيز دورهن في بناء السلام والاستقرار، والمساهمة في القضاء على جميع أشكال التمييز القائم على النوع الاجتماعي.
وفي الحقيقة، فإن الوضع العالمي اليوم الذي يتميز بسياق جيو - سياسي متوتر علاوة على الدور التخريبي للشبكات الجهادية والتطرف التي جعلت العالم في حالة حرب ضد الإرهاب، إنما يحتم وضع القرار 1523 على طاولة النقاش العمومي في بلداننا، لأنه ينطوي على حزمة من الإجراءات التي تتساند وظيفياً من أجل تقوية دور المرأة في جميع تفاصيل الحياة الاجتماعية وفي المجالات الخاصة والعمومية والمحلية والوطنية. وهنا نشير إلى أن كلاً من الأردن والعراق وفلسطين وتونس قد انخرطت في خطط وطنية طموحة لتنفيذ القرار طبقاً لبنوده الخمسة المتمثلة في محاور الوقاية والحماية والمشاركة والإغاثة وبناء السلام وإعادة الإعمار وأخيراً محور التوعية والمناصرة.
ولا تفوتنا الإشارة إلى أن هذا القرار الأممي يستوجب تنفيذه الانخراط في مسار إصلاحي مجتمعي شامل، لما يمثله من رؤية استراتيجية لتمكين المرأة من بلوغ وضعية الفاعل القيادي والمحدد الأول لأمن العالم وسلامه، شأنها في ذلك شأن الرجل. وبالتعمق في فلسفة القرار، ندرك أنه في انسجام مع مبادرات الإصلاح العربية، وأيضاً يستجيب لرواد الفكر الإصلاحي العربي منذ قرن مضى.
بمعنى آخر، فإن قرار مجلس الأمن الدولي 1523 يصب اليوم في أهداف السياسات العربية التي أدركت أن واقع المرأة وإشراكها بوصفها فاعلة حقيقية في التنمية والبناء والمصير الاجتماعي قد بات من مؤشرات التموقع في العالم. وبعد انخراط الأردن والعراق وفلسطين وتونس في خطط وطنية لتنفيذ القرار، فإنه أصبح من الممكن اعتماد آلية المقارنة للقياس والاستفادة رغم أن جائحة «كورونا» قد أثرت على تقدم تلك البلدان في خططها.
لقد اكتوت النساء بنيران الحرب القاتلة وعرفن مرارة اللجوء والتهجير وضياع فلذات الأكباد ومحنة التحول إلى أرامل وثكالى. ولأنهن دفعن تكلفة نفسية ومادية ووجدانية باهظة، فإن المنطق يحتم أن تُفرد لهن مساحة تليق بتضحياتهن من أجل المشاركة في صنع السلام والاستقرار بدءاً من الأسرة وصولاً إلى المجتمع وأعتى مؤسساته.
وطبعاً الإرادة السياسية عامل حاسم في هذه القضية.