بقلم - جميل مطر
اتصلت بى على الهاتف النقال. اعتذرت عن المفاجأة وسألت إن كان فى وقتى المزدحم حسب معلوماتها استراحة تسمح لها بزيارتى. تحدد الموعد ليكون فى مساء اليوم التالى ويكون مفتوحا حسب طلبها. تمنت فى نهاية الحديث أن يكون اللقاء محصنا ضد زيارات أو انشغالات غير محسوبة، معربة عن ثقتها فى أن تكون ذاكرتى لا تزال جيدة وأننى لم أنسِ المرحلة التى عملت فيها هى ورفيق عمرها معى فى المؤسسة التى تولت تدريبهما مع آخرين فى مثل عمرهما وتخصصهما.
• • •
أنهيت المكالمة والتفت إلى المساعدة التى تصادف وجودها فى غرفتى لأطلب منها التحضير للزيارة. عشاء خفيف ومشروبات مناسبة وأوامر إضافية لترتيب المكان وتنظيفه بعد يوم نعلم كلانا أنه سيكون حافلا باجتماعات عمل ومؤتمرات ودورات تدريب. رأيت فى عينيها فضولا لا أستغرب حضوره فى مثل هذه الظروف، ظروف اتصال غامض ليس عن طريقها ونبرة فى صوتى غير النبرة التى تعودت على سماعها فى ظروفنا العادية. توقعت أن تسأل وسألت. حجتها فى السؤال تسديد البيانات الضرورية عن الزيارة. لم تحصل، كالعادة، على كل ما يشبع فضولها الذى تراه مبررا بحكم موقعها وتاريخها ومسئولياتها، وبحكم ما تعتقد أنه يعكس طبيعة العمل المتشعب الاختصاصات والمتعدد الأفراد والمتداخل فى كثير من حالاته بين العام والخاص وبين الماضى والحاضر وبين الواقع والخيال.
• • •
رحت أجيب عن بعض أهم أسئلتها، وفى الحقيقة وجدت فى الإجابة فرصة لأستعيد أكبر حصة ممكنة فى رصيد ذكرياتى عن الضيفة التى تقرر أن نستقبلها مساء اليوم التالى. كان الرصيد يسمح، إذ كانت الفترة التى أطلت علينا منها الضيفة على مؤسستنا غنية بالأشخاص وبخاصة بالشباب كما بالأحداث الكبيرة والصغيرة على حد سواء. من ناحية أخرى استحقت الضيفة أن تكون بالفعل نموذجا أثرى لحظة من أهم لحظات حياة أكثر من إنسان عاش معنا تجربة بناء صرح ثقافى وإعلامى مختلف. جاءت إجاباتى كطبيعتها عندى مبتسرة وإن حاولت أن تؤدى الغرض وهو أن أستعيد بعض الذاكرة وأشبع بعض الفضول.
أذكرها بين متدربات ومتدربين فى المؤسسة التى أدرت أمورها لمدة غير قصيرة. كانت طموحة ورشيقة وغنية بالأفكار وصغيرة فى العمر وكبيرة فى العقل وجميلة فى الملامح وهادئة الطباع وأنيقة المظهر فى تواضع وبساطة. أتحدث هنا عنهما، كل على حدة وكلاهما معا. صفات اجتمعتا فيهما هى والمؤسسة. أذكرها تمشى فى غرفها تعدل من وضع لوحة معلقة على حائط ثم تقف أمام مرآة لتعيد خصلة من شعرها خرجت عن السياق. تمر على مكتب زميلة بدت لها مكتئبة فتسحب مقعدا وتجلس إلى جانبها لا تغادر إلا وقد عادت كل الأسارير إلى بهجة محببة. تتسحب من جلسات التدريب وتتسلل إلى المطبخ لتعود بصينية عليها كئوس شاى بعدد المتدربين وأستاذتهم، كئوس تزين هاماتها حبتان أو ثلاث من الصنوبر استحضرته خصيصا للمؤسسة فى زيارة لها إلى أبوظبى.
• • •
أذكرها وقد وقعت فى حب متدرب يكبرها بعامين أو أكثر قليلا. لم يكن فى الأمر مفاجأة لى. قضيت مدة غير قصيرة منذ انضمام هذا المتدرب إلى هذه الدورة التدريبية أراقب إعجاب معظم المتدربات أو انبهارهن به. كثيرات سعين إليه وقليلات امتنعن خجلا أمام فصل متربص أو تعالٍ على سلوكيات التجمهر من جانب الزميلات. من بينهم، وأقصد من بين القلة الرافضة للاشتراك فى تكالب على زميل بعينه كانت هذه المتدربة التى هى اليوم ضيفتنا. راقبتها تقترب منه وتبتعد عنه بحساب دقيق. خيل لى أكثر من مرة أنها اقتربت ببطء حتى لمسته وابتعدت بسرعة أملا فى أن تكون اللمسة فاتت عليه فلم يشعر بها ويصير من حقها أن تعيد الكرة. لم يصدر عنه مرة واحدة رد فعل يسمح لمن اقتربت حتى لمست مجرد الظن أنه استلم رسالة حملتها اللمسة.
جاءت إلى مكتبى فى نهاية يوم تدريب، استأذنت فى الدخول فأذنت. جلست ولم تتكلم على الفور. بدت للحظات مترددة كما لو كانت فى حاجة لتشجيع. عرضت عليها أن أطلب لها مشروبا باردا وفى الوقت نفسه بدأت أتكلم عن حفل أنوى إقامته على شرف المتدربين والمتدربات والمدربين والمدربات. وانتهزت الفرصة لأصرح بما كنت أخفيه وهو أننى سوف أطلب منها إلقاء كلمة بالنيابة عن زملائها وزميلاتها. يبدو أنها تشجعت إذ رأيتها تنتقل من مكانها لتجلس فى مكان آخر يسمح لها بزاوية أفضل للرؤية. هناك استجمعت شجاعتها وقالت: «اسمحلى أولا أن أناديك بصديقى وليس بأستاذى. أعرف أننى بهذا الطلب أتجاوز حقوقى واختصر زمانا وتجارب وأفاقا تفصل بيننا، ولكنى أعرف أنك لن تمانع فهذه من بعض طباعك التى استحسناها. تشربنا كثيرا منها حتى صرت أنا شخصيا أرجع أمام أمى أفضل خصالى الجديدة التى أعجبتها إلى ما استحسنت من طباعك وما تشربت.
• • •
صديقى وأستاذى، أنا هنا الآن لأطلب منك الرأى فى اختيار أتجاسر وأطرحه أمامك. أريدك تساعدنى فى أن يتقدم زميلنا، أحمد، لخطبتى من أهلى. أعلم يقينا أنك معجب بما حقق من إنجاز فى هذه الدورة ومعجب بأخلاقه وأساليبه فى التعامل مع أقرانه. أنا أيضا معجبة به فى كل ما أنت معجب به، ولكنى معجبة أيضا إعجاب امرأة خبرتها فى هذه الأمور ضئيلة وإن كانت غنية بشاب لا يعرف عن الحب إلا القليل، وربما القليل جدا. استبق سؤالك فأجيب، نعم يا صديقى أنا قادرة على أن أقوده على هذا الطريق الوعر والممتع فى آن، طريق الحب. استبق سؤالا آخر فأجيب، نعم يا سيدى، أنا أحبه كل الحب الممكن بل وأكثر. أحب صفاته، صفاته كافة. لا أتصور أن إنسانا قابلت أو نهض بى فى طفولتى ومراهقتى وشبابى امتلك هذه الصفات مكتملة كما هى مكتملة عند هذا الشاب.
أستاذى، أشعر فى داخلى أنك لن تغضب إذا تهورت فى حضرتك فقلت إننى لن أترك، أحمد، لغيرى. أحبه كما لم أحب فى حياتى. أعرف أنه لا يحبنى بالقدر نفسه. أنا أروق له وهذا يكفينى فى هذه المرحلة. أحبه، وأعدك وعدا صادقا وحازما بأننى لن أحب غيره مهما طال بنا الزمن. أنا الآن فى انتظار رأيك وقرارك».
• • •
.. مساء اليوم التالى
استقبلتها وكانت كما كنت أعرف عنها دقيقة فى التزام مواعيدها حتى استحقت احترام نظرائها ورؤسائها. «أنا هنا اليوم، بعد مرور أكثر من ثلاثين سنة، لأبلغك بأننى احترمت وعدى لك بأننى سوف أحب أحمد طالما استمر يجرى فى عروقى دم أحمر. طبعا أنت سعيد لالتزامى بالوعد. أنا مدينة لك بالسعادة التى عشت كل هذه السنوات أرفل فى ظلالها والفضل لك منذ اللحظة التى استجاب، أحمد، لحثك إياه على طلب يدى من أهلى.
من حقك الآن أن تعرف أيضا أنه بعد مرور سنة على زواجنا اختار، أحمد، أن يطلب منى أن تتحول علاقتنا إلى صداقة، وأن نتعهد بألا ندع هذا القرار يؤثر على زواجنا وحبنا لبعضنا. قبلت يا أستاذى بدون تردد وها نحن بعد هذا العمر الطويل نعيش زواجا مستقرا. تغيرت تفاصيل وعلاقات، وتطورت أفكار وسلوكيات، وبقى الحب وبقى الرجل الذى تزوجنى نموذجا لكل ما هو طيب وكريم ودافئ فى خصال من عرفت من الرجال.