بقلم: جميل مطر
ما الجديد فى هذا العنوان؟ ألم يلق العالم بنفسه فى أحضان أمريكا منذ أن اقتربت نهاية الحرب العالمية الأولى وانعقد مؤتمر فرساى وصدور إعلان الرئيس وودرو ويلسون بنقاطه الأربعة عشر؟ ألم تتأكد البشرية من أن مستقبل العالم عاد ليضع نفسه فى يد أمريكا التى سرعان ما انضمت إلى معسكر الحلفاء فى أعقاب الهجوم على بيرل هاربور، وعلى الفور راحت تحارب فى جبهتين، جبهة القتال وجبهة مفاوضات لبناء نظام عالمى يحل محل النظام الذى انتهى بالعالم إلى حرب عالمية ثانية. وضعت أمريكا أثناء الحرب أسس نظام القطبين ودافعت عنه إلى أن أفلس وانفرط بدون حرب فقام نظام القطب الأوحد. قادت العالم منفردة ولكن محتفظة بالأسس المؤسسية التى أرستها خلال الحرب العالمية الثانية. بقيت الأمم المتحدة وكافة أجهزتها تعمل خلال مرحلتى القطبين والقطب الأوحد. تصرفت أمريكا ضمن إطار الشرعية الدولية فى قضايا عديدة وتصرفت ضد هذه الشرعية فى قضايا أخرى أشهرها غزو واحتلال العراق، الدولة المستقلة ذات السيادة.
• • •
من حيث الشكل ما تزال الولايات المتحدة تقود العالم منفردة وفى الوقت نفسه تدير منافسة اتخذت فى بعض مراحلها طابع الشراسة. بدأت المنافسة متدرجة فى عصبيتها عندما تأكدت أمريكا والعالم بأسره أن الصين حققت، ومستمرة فى تحقيق، درجات متصاعدة من التفوق الاقتصادى والاستقرار السياسى والسمعة الدولية وبخاصة فى علاقاتها بالدول النامية وباحترامها ميثاق الأمم المتحدة ومواثيق المؤسسات الأخرى التابعة للمنظمة الدولية، الاحترام الذى شفع لها لدى مختلف الدول الكبرى وبخاصة الولايات المتحدة لتنضم لمنظمة التجارة العالمية ولتزداد انطلاقا. لم يحدث فى أى مرحلة مبكرة من مراحل هذا الصعود أن وجهت الصين من جانب أمريكا بمواقف عدائية أو معرقلة لهذا التفوق. بمعنى آخر كانت الولايات المتحدة، وهى القطب الأوحد والقائد للنظام الدولى، تدعم الصين فى مرحلة لعلها كانت الأهم والأشد حرجا فى مسيرة الصعود إلى مصاف القمة.
• • •
اللافت للانتباه فى هذه المسيرة أن الولايات المتحدة كانت مدركة لحقيقة تاريخية وهى حتمية الصدام بين قوة قائمة وقوة صاعدة. أدركت هذه الحقيقة مع الصين ولم تعترض مسيرة صعودها. قيل فى تفسير هذا الموقف المخالف للحقيقة التاريخية أن أمريكا كانت فى حاجة لتتعاون مع قوة صاعدة لتستفيد خاصة وأن كلا منهما سوقا هائلة للآخر. أما عن الحقيقة التاريخية فقيل إنها غابت أو غيبت بتأثير الثقة الزائدة التى تضخمت فى ثنايا العقل السياسى الأمريكى لطول المدة التى قضتها واشنطن تقود النظام الدولى منفردة فى حقيقة الأمر أو بمشاركة فى الغالب رمزية من جانب القطب السوفييتى. لست غافلا عن أن هذا العقل الأمريكى ربما كان محملا بمشاعر عنصرية قوية أو ضئيلة ضد الآسيويين عموما وبخاصة ضد الصينيين ففرض على عناصر الدولة العميقة فى أمريكا كما فى غيرها من عواصم الغرب الاستهانة بقدرة الحزب الشيوعى الصينى على قيادة أمة بهذا الحجم فى مسيرة هكذا خطيرة ومكلفة، وفى الوقت نفسه لست غافلا عن أن وجود هذه المشاعر العنصرية يقلل من القدرة على التقدير السليم لقوة الخصم المنتمى لعنصر أو جنس آخر.
• • •
دفعنى إلى اختيار هذا العنوان لمقال الأسبوع تطور جوهرى فى جانب من جوانب الحرب المثيرة للجدل فى أوكرانيا. إذ ترددت فى أجهزة الإعلام فى الأيام الأخيرة تصريحات وتسريبات أعتقد أنها متعمدة عن مواقف وملاحظات لمسئولين فى بعض دول الغرب تنم عن رغبة فى تخفيف الالتزام بدعم الأوكرانيين فى حربهم ضد جيوش روسيا، وحيث لم تصدر تصريحات وتتسرب تسريبات وقعت تلميحات فى كثير من كتابات إعلاميين مطلعين. ذكرتنى التصريحات كما ذكرتنى التسريبات والتلميحات بردود فعل القادة الأوروبيين على نداءات دونالد ترامب رئيس أمريكا السابق لقادة الدول الأعضاء فى حلف شمال الأطلسى لتسديد أنصبتهم فى ميزانية الحلف ولو عند الحد الأدنى. لم يستجب أغلب القادة إلا مؤخرا. استجابوا عندما اجتمعت ظروف دفعت روسيا إلى غزو أوكرانيا وليس انتباها إلى أن أمريكا استعادت فجأة قوتها وهيبتها وعادت تفرض إرادتها. تحمسوا فى البداية وبعضهم أطلق تصريحات نارية وكثيرون أفرغوا ما فى ترساناتهم من أسلحة روسية الصنع أو أسلحة اشترتها دول أوروبا ولم تستعملها فتجاوزتها التكنولوجيا الأحدث، كلها وغيرها أرسلوها إلى أوكرانيا. كانت فرصة لتحديث الترسانات وتشغيل مصانع أسلحة والتعبير عن غضب شديد لما فعلته روسيا أو خيبة أمل هائلة فى فلاديمير بوتين الذى أجبر هؤلاء القادة على الخضوع أخيرا للدولة القائد فى الحلف الغربى وتنفيذ ما تطلبه دون تردد كبير أو اعتراض ولو شكلى.
مرت فترة شهدت حماسة منقطعة النظير داخل معسكر الغرب. كان الظن أن الحرب ستكون قصيرة. لم ينتبه معظم القادة، أو انتبهوا وانصاعوا، إلى أن هذه الحرب ربما تكون لغرض آخر غير معلن مثل استنزاف روسيا تمهيدا لإخراجها من سباقات القمة الدولية، أو لغرض ثالث وغير معلن كذلك وهو تخويف الصين من مصير محتوم إن استمرت فى صعودها المتسارع بينما مظاهر الانحدار الأمريكى تتواصل وتتعدد وبخاصة فى الجوانب الداخلية. طال أمد الحرب. أظن أن أطرافا غير قليلة توصلت إلى أن التجربة الأوكرانية فشلت فحق للأوروبيين حلفاء أمريكا أن يترددوا، وربما حق للرئيس بايدين نفسه أن يستبدل لغة العنفوان بلهجة الاعتدال، بعد حصول حزبه فى الانتخابات على نتائج غير مبهرة، وبعد أن اتضح أن الرأى العام فقد بعض حماسته لدعم أوكرانيا، وبعد أن رصدت أجهزته أن دولا عديدة فى أوروبا تغيرت نبرة خطابها السياسى المتعلق بهذه الحرب، وبعد أن ترددت مخاوف بين عسكريين غربيين من عواقب خطيرة تشمل الجميع إذا استمرت هزائم روسيا على أيدى مدافعين أوكرانيين مدعومين بأموال وأسلحة غربية. لن يغيب عن الذاكرة الأوروبية رد فعل الألمان فى الثلاثينيات من القرن الماضى على تعمد دحرهم وتحقيرهم واستنزافهم عقابا لهم على حرب أشعلوها وانهزموا فيها وعوقبوا بضراوة. آخرون فى أوروبا وخارجها يحملون أمريكا وحدها مسئولية الفوضى السياسية الراهنة فى أوروبا وصعود النوازع القومية والشعبوية داخل المجتمعات الغربية ومنها أمريكا نفسها. من هؤلاء من يعتقد أن أمريكا صارت أضعف وتزداد ضعفا وتنحسر مكانة ويضربون المثل بإهانات تعرضت لها من جانب بعض دول العالم النامى وآخرها من جانب المملكة العربية السعودية ودول نفطية وخليجية أخرى.
أما نحن فلا يجب أن نتجاهل أمرين أو اجتهادين، ولا أقول حقيقتين. أولهما: المقابلة المطولة التى جرت بين الرئيسين الصينى والأمريكى على هامش قمة العشرين فى بالى، قمة تحتاج منا إلى نظرة متعمقة ولقاء لا نعتبره لقاء كغيره. أتصور أن فى العمق عرضا من الصين سبقه تمهيد بين خبراء الدولتين. العرض الصينى يستبق سنوات وربما عقودا فى علاقات الدولتين ويعتمد على الاعتراف فورا بأن أمريكا باقية قطبا لا غنى عنه وعن قيادته والصين قطب صاعد فى القوة والمكانة ولا غنى عنه لشراكته وتحمله أنصبة فى مسئولية قيادة العالم. حديث الرئيس الصينى عن استعداد الصين للتعاون الكامل مع الولايات المتحدة كان معنيا بإبلاغ الرئيس الأمريكى أن الرئيس شى يأتى إلى هذه القمة يحمل تفويضا من المؤتمر العشرين للحزب الشيوعى الصينى لفتح عهد جديد من التعاون مع أمريكا يتدرج صعودا ليصير على مستوى شراكة فى قيادة العالم.
ثانى الأمرين أو الاجتهادين هو اعتراف أمريكى، لا يقل أهمية عن اعتراف أمريكى آخر حمله الرئيس رتشارد نيكسون وبصحبته الدكتور هنرى كيسنجر نقل فيه حاجة أمريكا إلى خروج الصين من عزلتها. ربما مست هذه الحاجة فى وقتها أى قبل نصف قرن ظروف الحرب الباردة فى العلاقة بين طرفى القمة الدولية الاتحاد السوفييتى والولايات المتحدة. الآن يكاد يفصح، ولكن لن يعلن، جوزيف بايدين للرئيس الصينى عن حاجة مماثلة خلاصتها أن أمريكا ربما لم تعد تحتمل منفردة أعباء القيادة المنفردة. صارت التكلفة باهظة وليست سرا يمكن إخفاؤه. أضف إلى التكلفة مظاهر فى السلوك ترتبط بتقدم سن الرئيس الأمريكى مثل مشيته المتعثرة والصعوبة التى صار ينطق بها ويقرأ الكلمات. أضف أيضا أن الإحصاءات الأخيرة عن صعوبات يواجهها اقتصاد أمريكا وعن مشكلات اجتماعية متفاقمة لم تعد أسرارا يمكن إخفاؤها. كلها وغيرها إذا اجتمعت فسوف تجعل العامين القادمين من حكم الديموقراطيين، وبالتحديد من ولاية جو بايدن، أيام محنة فى حياة أمريكا السياسية.
أتصور، ولن أكون مخطئا فى تصورى، أن النظام الدولى ربما بدأ هذا الأسبوع يخطو خطوات هامة فى تجربة انتقال جديدة من عهد إلى عهد.