شوارع أثرت حياتى

شوارع أثرت حياتى

شوارع أثرت حياتى

 العرب اليوم -

شوارع أثرت حياتى

بقلم : جميل مطر

 

أن تعيش العمر ممتنًا لطفولة سعيدة، أن تقدر بأغلى المعايير صدفة أن تولد فى عائلة ممتدة، أن تتعرف مبكرًا على حضن الجدة والخالات وتذكره إلى نهاية المشوار، وكأنه حدث بالأمس، أن تتعود على ذوق متميز فيما يقدم لك من طعام وشراب، أن تحبو وتمشى على أربع وتركض وتسافر مطمئنًا إلى أن عيونًا أو قلوبًا لا تفارقك، أن تتغذى عروقك على دفقات متواصلة من حب غامر، أن تحيا، تنام وتصحو، على ذكر المشربية التى من فتحات جوانبها تعرفت مبكرًا جدًا على حقيقة أن هناك حيوات أخرى غير حياة بيتى وعائلتى، أن تستمتع بالصخب، صخب الدق المتواصل على النحاس، وكأنه إيقاع موسيقى لا يمل، أن تكون واثقًا وأنت تقترب من نهاية المشوار، وأنا بالفعل واثق، أنه دون العلاقة بهذا الشارع، شارع أمير الجيوش الجوانى، ما كنت هذا الطفل والمراهق ولا كنت هذا الشاب والشقيق والرجل والزوج والأب والصديق والدبلوماسى والكاتب الصحفى، ما كنت هذا الإنسان.

• • •

أشهد للأفلام السينمائية المصرية بالفضل أنها قدمتنى لشارع آخر عزيز وكريم. كنا، وكنت مراهقا ثم شابا، نقضى أمسية الخميس من كل أسبوع فى إحدى دور السينما الصيفية، وكانت كثيرة فى الحى الذى احتفى بى مراهقًا وشابًا. هناك، فى كل مرة يظهر فيها على الشاشة شارع بعينه، كنت لا أخفى انبهارى. يظهر رجل يقود سيارة فاخرة تمشى الهوينا وإلى جانبه أو فى أحضانه فتاة تغنى والنسيم «يطاير» خصلات شعرها. الشارع خالٍ من السيارات إلا سيارة البطل والبطلة والرصيف خال من المارة على امتداد مدة الأغنية. الأشجار أراد المخرج منها أن تتمايل مع اللحن فتمايلت. راح خيالى يصور لى أن الشارع حقيقة، النيل الذى أحببت حقيقة والأشجار المتمايلة حقيقة والفتاة حقيقة والنسيم حقيقة واللحن حقيقة، فقط السيارة الأمريكانى الفاخرة هى المرفوضة من خيالى الخصب. أعترف أن هذا الخيال وهذا المشهد المتكرر فى الأفلام المصرية وحكايات «شارع الجبلاية» كانوا جميعًا من أدوات تأهيلى لإدارة بعض أهم المراحل العاطفية فى مستقبل حياتى، كانوا دائمًا جزءًا من خلفية هذا المستقبل.

• • •

غريب أمر الشوارع. تشترك فى سبب وجودها ولم تشترك فى كل وظائفها. ظهرت إلى الوجود تلبية لطلب من العجلة فور اختراعها. وانتهت تلبى طلبات من أطراف ومصالح عديدة منها طلب من شبان وشابات أن يكون فى المدينة شارع لهم ولهن. كنت فى الصين عندما قرروا توسيع أهم شارع فى العاصمة، ليؤدى بكفاءة نادرة وظائف محددة. اتسع لينقل ما لا يقل عن مليون دراجة هوائية ذهابًا وإيابًا تحمل فى أيامها العادية موظفين ووزراء وتلاميذ وعمالًا رجالًا ونساء. لا أبالغ فى شهادتى حين أقول إن المارة مثلى كانوا يقفون انبهارًا بهذا الحشد المليونى الذى لا يصدر عنه خلال مروره فى الشارع العريض الطويل صوت، أى صوت.

ذات صباح وقفنا نراقب هذا المشهد الصامت. التفت لى نزار قبانى زميلى فى العمل منتظرًا تقريرى، قلت أرى برودا يعكسه هذا الصمت الرهيب. قال أما أنا فمصاب بخيبة أمل. يا صديقى ولا مرة واحدة خلال مراقبتى وقع نظرى على أنثى تنظر فى اتجاه رجل أو على رجل يختلس نظرة فى اتجاه أنثى. إنه طوفان بشرى لا يعرف الحب وربما لم يسمع عنه.

• • •

تركت نزار فى بكين لأنفذ قرار نقلى إلى إيطاليا. مرت سنوات غير قليلة قبل أن أعود إلى بكين ضمن فريق صحفى من الأهرام. كم وددت على امتداد أيام زيارتى أن يكون معى نزار ليرى بعينيه ما رأيت فيستعيد الثقة بالأمل. وجدت رموز الحب فى كل مكان، وجدتها فى الشارع نفسه وفى الحديقة العامة المطلة عليه. رأيت فتيات بشعر طويل مسدل حتى صدورهن و«جونلات» فوق الركبة، رأيت الفتية فى بزات أنيقة وأحذية جلدية لامعة. اختفى الزى الموحد وعدت أستطيع التمييز عن بعد بين الفتاة والفتى. عاد الحب.

• • •

من شارع فى الصين إلى نقيضه فى إيطاليا. وصلت وسمعة ما أسموه بالحياة الحلوة فى روما تتردد فى كافة عواصم أوروبا وعالم الفن فى أمريكا. يجسد هذه السمعة ويغذيها شارع حمل اسم "فيا فينيتو". هناك وحول موائد مقهى أو آخر عقدت صفقات فنية وانبثقت علاقات عاطفية وتهدمت علاقات عائلية ورسخت علاقات صداقة وعمل ورسمت خيوط مؤامرات مخابراتية وتبودلت معلومات دبلوماسية. استفدت شخصيا. كنت بمعنى أو آخر وفى حين أو آخر تلميذا مجتهدا فالأنشطة فى هذا الشارع أغلبها جديد على شاب لم يتجاوز الثالثة والعشرين من العمر، شاب قادم لتوه من شارع فى الصين صامت وبارد. قررت مخطئا، من بين الكثير من قراراتى، أن الشارع، أى شارع، يمكن أن يكون مدرسة إذا توفرت له أسباب جعلت من «فيا فينيتو» قبلة ومدرسة وجامعة ومعهد علاقات عامة ومركزا للسينما فى آن. هنأت نفسى بما تعلمت منه وجنيت وبما تفاديت وتجنبت. عدت إلى روما بعد بسنوات أبلغت أصدقاء قبل وصولى رغبتى فى أن نلتقى فى ضاحية أوستيا على بعد عشرين كيلومترًا من العاصمة، أبعد موقع عن «فيا فينيتو» يمكن أن نلتقى فيه. حجتى وقد صارت عقيدة أن لا أعود إلى مكان حملت له تقديرًا أو عاطفة ورسمت له صورة ذهنية أخاف أن تتأثر بتغير طرأ عليه أو على أهله وعمائره.

• • •

زرت باريس وأقمت عامدًا حول «الشانزليزيه» الشارع الأسطورة الذى حاولت مدن كثيرة فى العالم صنع مثله. حاولوا فى تونس وحاولنا فى مصر عندما خططنا وهندسنا شارع جامعة الدول العربية ليتوسط حى المهندسين. عشت فيه ما يقارب نصف القرن حتى يوم خان عهوده حين سمح ليد التطوير أن تمتد إلى أشجاره فتقتلعها وإلى هندسته فتشوهها.

زرت فى باريس شارعًا آخر. زرت «فوبور سانت أونورى» الشارع الأحب لأثرياء العالم القديم وأرستقراطيته العتيقة. رأيت فيه، وكنت فى صحبة واحد منهم، ما لم أحلم يوما باقتنائه أو أقوى على إهدائه.

• • •

المدن شوارع. ارتحت فى مدن شيدت فى الشوارع لسكانها وزوارها «كنبات» حجرية. شهدت بالكفاءة لمن أمر فى شارع زرته بتعليق لوحة على كل شجرة تسجل تاريخ ميلادها وأصالة عرقها.

الشارع فى النهاية شهادة حسن سير وسلوك ومستودع حكايات وبصمة ولاء لوطن.

arabstoday

GMT 07:03 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

صوت الذهب... وعقود الأدب

GMT 07:02 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أولويات ترمب الخارجية تتقدّمها القضية الفلسطينية!

GMT 07:01 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 06:59 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

عن تكريم الأستاذ الغُنيم خواطر أخرى

GMT 06:56 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الجائزة الكبرى المأمولة

GMT 06:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

تنظيم «الإخوان» ومعادلة «الحرية أو الطوفان»

GMT 06:52 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

لأميركا وجهان... وهذا وجهها المضيء

GMT 06:51 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أنا «ماشي» أنا!.. كيف تسلل إلى المهرجان العريق؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

شوارع أثرت حياتى شوارع أثرت حياتى



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 07:35 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 العرب اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 07:55 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
 العرب اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 07:54 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامينات ومعادن أساسية ضرورية لشيخوخة أفضل صحياً

GMT 07:15 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامين سي يعزز نتائج العلاج الكيميائي لسرطان البنكرياس

GMT 05:57 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

مشكلة العقلين الإسرائيلي والفلسطيني

GMT 07:39 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

نجاة نهال عنبر وأسرتها من موت محقق

GMT 22:56 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

مقتل 3 جنود لبنانيين في قصف إسرائيلي

GMT 09:48 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

بيب غوارديولا يوافق على عقد جديد مع مانشستر سيتي

GMT 18:37 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

واشنطن تفرض عقوبات على 6 قادة من حركة حماس

GMT 16:42 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

جماعة الحوثي تعلن استهداف سفينة في البحر الأحمر

GMT 08:32 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

حسين فهمي يُعلّق على فوزه بجائزة عمر الشريف

GMT 06:43 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب الطامح إلى دور شبه ديكتاتور!
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab