نحو فكر قديم جديد للتحرر من الغرب

نحو فكر قديم جديد للتحرر من الغرب

نحو فكر قديم جديد للتحرر من الغرب

 العرب اليوم -

نحو فكر قديم جديد للتحرر من الغرب

بقلم - جميل مطر

كنا أربعة في غرفة واحدة بسفارة مصر في روما، في أوائل عقد الستينات. الأربعة بأعمار متقاربة، كلهم تحت الثلاثين. كنت الأصغر فيهم. اشتهرت الغرفة. ذاع صيتها حتى وصل إلى غرف قادة كبار في القاهرة. تقاربت أعمارنا، وكذلك أفكارنا، ولكن تنوعت أصولنا وخلفياتنا وشخصياتنا. طرحنا للنقاش قضايا لم يكن محبباً لدى المسؤولين الولوج فيها. خصصنا لكل قضية ساعة، وللقضايا الأكبر عطلة نهاية أسبوع على الساحل في أوستيا أو على الجبل حول المقر الصيفي لبابا الفاتيكان في كاستيل جاندوفلو. ناقشنا محرمات كثيرة، وتعلمنا الكثير، ومن صفوفنا تخرج قادة أبلوا فيما بعد بلاءً حسناً.

تذكرت وأنا أقرأ ثمار الإنترنت لهذا الصباح نقاشاً يخصني دار في الغرفة في يوم من تلك الأيام، وامتد أسابيع وخلف آثاراً عميقة. كان في الغرفة، التي اشتهرت بالغرفة رقم خمسة في فيلا آدا، القصر الملكي الذي استضاف سفارة مصر منذ عصر المملكة الإيطالية، أقول كان بالغرفة من اتهمني بأنني لم أحلم لبلادي بثورة على النمط الأميركي، ولم أخفِ حلماً يميل ناحية نمط الثورة الصينية. وقتها كان الاتهام بالانتماء إلى آيديولوجيا مخالفة كفيلاً بكتابة النهاية على فصل من حياة الإنسان، أو على قصة حياته بأكملها. المهم أنني حاولت إقناع أعضاء الغرفة رقم خمسة بأن الشيوعية ليست في هذه الحالة أكثر من صفة يلصقها زعيم بأسلوب اختاره لتحقيق حلم بناء أمة في أسرع وقت ممكن. ويا حبذا لو صيغت الصفة على النحو التالي «اشتراكية بخصائص صينية أو مصرية أو هندية أو عربية... إلخ». صاغها الرئيس ماو، وأكد عليها الرئيس دينغ، وبعد ما يقرب من ربع قرن عاد الرئيس شي ليعلن تمسكه بهذه الصيغة.

قرأت هذا الصباح أن حكومة بكين تعترف بأن معدلات تنفيذ رؤية الرئيس شي لمستقبل الصين تباطأت. واقع الأمر يشي بأن معدلات النمو عامة، وفي العالم بأسره، تباطأت لسببين رئيسيين على الأقل، هما أولاً الحرب التي يشنها الفيروس كورونا ضد كافة المجتمعات، وثانياً الأزمة الاقتصادية في النظام الرأسمالي، وهي الممتدة منذ خمسة عشر عاماً في ظاهرها، وأكثر من هذا في حقيقتها.
مرت المنافسة بين الصين الصاعدة «إمبراطورياً»، والغرب، بمراحل مهمة، آخرها مرحلة «التدليل» قبل أن تدخل مرحلة القهر والإجبار. لا أحد في الغرب أو الشرق ينكر أن الولايات المتحدة دللت الصين تدليلاً كبيراً وطويلاً. وكثيرون لن ينكروا أن «استدعاء» الصين لتدليل الغرب لها ما كان يمكن أن يؤتي أكله لولا تمسك القيادة الصينية بشعار الاشتراكية بخصائص صينية. في البداية نجحت القيادة الصينية في إقناع الغرب بأن وجودها في قلب النظام الرأسمالي، أي في منظمة التجارة العالمية، مفيد للطرفين. وبالفعل كانت محاولة دمجها في النظام الغربي مكسباً هائلاً للتجارة الدولية، وتدفق الاستثمارات والنمو الاقتصادي بشكل عام. لن ننسى أن أميركا كانت تحلم بجر الصين لتصير عضواً فاعلاً في منظومة أطلسية باسيفيكية يصنعها الغرب ويقودها. من أجل هذا دللت، بل وفي البداية مارست معها الغواية. لن ننسى أيضاً أن الغرب والصين كلاهما كان حريصاً على ألا يسمح بأن تتكرر بينهما ردود الفعل التي تُبودلت بين أميركا واليابان حول صعود اليابان في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. الصين أيضاً استفادت من مرحلة التدليل. أولاً، حقق الاعتراف الدولي بها قوة اقتصادية لا يستهان بها، ثانياً، وصلت بأقصر الطرق الممكنة إلى مراكز القرار الاقتصادي في كل دول العالم، بخاصة في الدول النامية. ثالثاً، تأكدت القيادة الصينية من أن العالم النامي متعطش لاستقبال أي غريب يأتي إليه حاملاً استثمارات ووظائف، وهو على كل حال فاقد الأمل في الخروج النهائي والمطلق من مكان وضعه فيه الغرب منذ منحه الاستقلال. رابعاً، أظن أن الصين أدركت مبكراً أزمة الحلف الغربي، وراقبت عن قرب انفراط بعض أجزائه، ورخاوة قواعد كانت صلبة ذات يوم، وشكوكاً في قدرة الديمقراطية الليبرالية على صيانة إنجازات الغرب وتجديد شباب مجتمعاتها. خامساً، ازدادت ثقة القيادة الصينية في نظامها السياسي وقدرته على تنفيذ التغيير وصيانته، بخاصة بعد أن تأكد للجميع أن تغيرات المستقبل سوف تحتاج إلى قدرات فائقة على اتخاذ القرار السريع، واختيار الأساليب الجريئة والقيادات الملتزمة بقواعد النجاح، وهو ما قد لا يوفره نظام ديمقراطي ليبرالي.

لا يخفى علينا أن بدائل الطرفين محدودة. الصين لن توقف صعودها، والغرب لن يوقف انحداره. وكلاهما عاجز حتى الآن عن فرض العودة إلى وضع الحضارة الأوحد. الجديد المتوقع أن دولة ذات أصول إمبراطورية ومتمسكة بأهداب منظومة قيم آسيوية، مختلفة في الجوهر وترتيب الأولويات عن منظومة القيم الغربية، صارت تقريباً متأهبة لفرض قواعد سلوك وقيم على العالم الغربي هو الآن غير مؤهل لها. لكن، قطاعات متزايدة الاتساع في هذا العالم الغربي هي الآن أقل عداءً ورفضاً لكثير من هذه القواعد والقيم. هي مستعدة أو مجبرة للتأقلم معها في وقت تستعد للتأقلم مع أدوات تكنولوجية بالغة الذكاء وعصر بالغ السرعة وقوة دولية عادت تصعد بسرعة وحزم.

عادت أميركا إلى بديل كانت نفضته يوم قررت إدماج الصين في المنظومة الغربية. عادت إلى الإجبار. شنت على الصين حرباً باردة متنوعة الأساليب والمناحي. من ناحيتها الصين فيما أظن لن تعود إلى سياسة المهادنة والصعود المتأني. في الخلاصة، لن تجرب الانغماس في الغرب بالاندماج أكثر فيه كأن تقبل أن تكون قطباً ثانياً في نظام دولي ثنائي القطبية، حسب قواعد ومؤسسات النظام الذي أنشأه الغرب وكرسه لقيادة العالم بعد الحرب العالمية الثانية. أتخيلهم في مجتمعاتهم الفكرية داخل الحزب مقبلين على مناقشة أفكار تقترح التقدم ببدائل للمؤسسات التي يقرر الغرب هدمها بعد تخليهم عنها، وفي الوقت نفسه الاستعداد بالتبشير في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وفي سواقط النظام الليبرالي بمجموعة مختلطة ومنسجمة من القيم والأخلاق تصلح لإنشاء مظلة فكر نابع من فكر وتقاليد مجتمعات حضارية متمردة على الفكر الغربي.

هناك في الغرفة الزرقاء في فيلا آدا المطلة وقتذاك على غابة فسيحة وسط العاصمة الإيطالية، دار نقاش طويل بين أربعة شبان كان موضوعه حاجة شعوب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية إلى فكر يحررها من أغلال الفكر الغربي. هنا وعلى مسافة أكثر من ستين عاماً، أتساءل إن كان لدى الصين فكر جديد يحررنا ويحررها، ويختلف عما كانت تردده وقتها في مؤتمرات عدم الانحياز، وإن لم نجده في الصين، فأين يكون؟

arabstoday

GMT 04:32 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

رسائل الرياض

GMT 04:28 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

د. جلال السعيد أيقونة مصرية

GMT 04:22 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران وترمب... حوار أم تصعيد؟

GMT 04:19 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

هل تغتنم إيران الفرصة؟!

GMT 04:17 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

داخل عقل ترمب الجديد

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

نحو فكر قديم جديد للتحرر من الغرب نحو فكر قديم جديد للتحرر من الغرب



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 07:35 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 العرب اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 07:55 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
 العرب اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 07:15 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامين سي يعزز نتائج العلاج الكيميائي لسرطان البنكرياس

GMT 06:15 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

1000 يوم.. ومازالت الغرابة مستمرة

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 15:49 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الاتحاد الأوروبي يؤجل عودة برشلونة إلى ملعب كامب نو

GMT 14:52 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الرئاسة الفلسطينية تعلّق على "إنشاء منطقة عازلة" في شمال غزة

GMT 06:27 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الجيش الإسرائيلي يصدر تحذيرا لـ3 مناطق في جنوب لبنان

GMT 12:26 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الجنائية الدولية تصدر مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو وغالانت

GMT 13:22 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الرئيس الإيراني يناشد البابا فرانسيس التدخل لوقف الحرب

GMT 13:29 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

رئيس دولة الإمارات وعاهل الأردن يبحثان العلاقات الثنائية

GMT 14:18 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي

GMT 06:52 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

نتنياهو يعلن عن مكافأة 5 ملايين دولار مقابل عودة كل رهينة

GMT 14:17 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

نادين نجيم تكشف عن سبب غيابها عن الأعمال المصرية

GMT 09:07 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 23:34 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

يسرا تشارك في حفل توقيع كتاب «فن الخيال» لميرفت أبو عوف
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab