بقلم - جميل مطر
أعترف أن حال أمتى لا يعجبنى. أمتى التى أتحدث عنها هى مجموعة الشعوب العربية وتسكن أرضا تمتد بين الخليج فى الشرق والأطلسى فى الغرب. تقاربت مع شعوب فى الجوار عبر القرون ومن خلال عقائد دينية ومصاهرات ومصالح، تقاربت حتى تشابهت جميعها أو كادت. ثم تدهور حالها، أقصد حال أمتى، حتى أنهم كتبوا فى وصف قدرها ومكانتها ما يملأ جزءا معتبرا من تقرير صدر عن جامعة جونز هوبكنز عنوانه مؤشر البؤس العالمى.
استخدم واضعو التقرير لقياس البؤس أربعة معايير أهمها نسب البطالة والتضخم ومعدلات الإقراض والنمو المحلى الإجمالى. يقيسون البؤس فى إقليم هو الأغنى فى عالم الجنوب. لا أشك فى نزاهة الباحثين أو فى موضوعيتهم والتزامهم الأسلوب العلمى. وكما أننى لا أخفى إعجابى بعنوان التقرير وباستخدام الباحثين مترادفات عبرت فعلا وللأسف الشديد عن حال الغالبية من أفراد الأمة التى تسكن هذا الإقليم. وبذكاء شديد متوقع من باحثى هذه الجامعة المرموقة جرى التبادل الغزير فى وصف حال الأمة بين صفات منها البؤس والبطالة والكآبة والتعاسة. أظن أننا لا نستحق أن تجتمع علينا هذه الأوصاف، وأعتقد أن استمرار ترديد هذه الأوصاف لحال الأمة العربية ككل قد يشجع الأقلية القادرة فيها والواثقة من براءتها وعدم انطباق أى من هذه الصفات عليها، على الاندفاع بحسن نية نحو انتهاج سياسات من شأنها أن تزيد الفجوة اتساعا بينها وبين الأكثرية الموصوفة فى التقرير بالبؤس والتعاسة.
وهذا وللحق لأمر جد خطير. نتيجته الأولى لو حدث أننا، وأقصد أمتنا، تصبح لتجد نفسها انحدرت مكانة ونفوذا بين مثيلاتها من الأمم، أو لتجد نفسها فى نهاية المطاف وقد انفرط عقدها شعوبا متنافرة، كل شعب منها خلع عن نفسه، أو انخلعت عنه، هوية العروبة. نتيجته الثانية أن تصبح الأمة لتجد المفهوم الافتراضى الذى اكتست به كغطاء يستر نقائصها ومواقع ضعفها ونقاط شكوكها، وأقصد النظام الإقليمى العربى، وقد صار هو نفسه محل شك. أخشى أن يتقلص المفهوم الافتراضى شيئا فشيئا، فمن عنوان لمجلد إلى عنوان لفصل فى كتيب لسطر فى مقال عن تاريخ السياسة أو لعنوان حكاية قصيرة عن صعود وانحدار العرب. ومع ذلك فكثيرون لا يستبعدون على المنظرين الجدد للنظام الإقليمى العربى أن يفكروا ويبحثوا عن صيغة تسمح لهذا النظام العربى بحالته الراهنة أن يصير هامشا فى نظام إقليمى آخر إلى حين استعادة عافيته.
• • •
أين الحقيقة وراء ما حدث ويحدث للأمة العربية. أمؤامرة حيكت لنا بإتقان. صحيح أن المؤامرة لصيقة الصلة بالعلاقات الدولية. تكاد لا تخلو منها علاقة بين دولتين أو بين مجموعتين من الدول ولكنى وإن كنت لا أرفضها أو أنكر وجودها إلا أننى لا أعطيها حق أن تطغى على غيرها من العناصر الفاعلة فى العلاقة الدولية. حاولت مدرسة الاستشراق إلصاق الأسلوب التآمرى بمنظومة السلوك السياسى العربى حتى صار التآمر فى بعض كتابات المؤرخين الغربيين سمة ثابتة انتقلت من بعدهم إلى كثير من الباحثين فى أحوال الأمة العربية وبخاصة تاريخها السياسى. أرفض نظريات المؤامرة ولا أستبعد التآمر. هناك فى الواقع العربى الراهن أسباب للانحدار لا يمكن ولا يجوز إنكارها ولا بد من مواجهتها إن شئنا وقف الانحدار وشئنا الاستعداد للصعود.
يجب أن نتساءل إن كان السياسيون فى بعض دولنا العربية تركوا عبقرياتهم تنحسر. أعنى بذلك أن بعض السياسيين فى هذه الأمة بدأوا مسيراتهم بكفاءة. ومع مرور الوقت الطويل شاخت الكفاءة كأى خاصية أخرى وركنت الطبقة السياسية إلى الرضا بالمألوف والسهل والقمع أحيانا عوضا عن بذل الجهد لتطوير الطموح. قيل وتردد أن بعض السياسيين، فى عالمنا العربى كما فى خارجه، تنهكهم ضغوط شعوبهم أو يضجون بالشكوى من بطء تفاعل الشعوب مع تطلعاتهم وأحلامهم، بل وراح البعض منهم يتهم الشعب فى بلده بالتمسك بالتخلف والفقر والتراخى فى العمل. أنا نفسى سمعت رئيس دولة، خلال حوار مغلق، يتمنى لو أمكنه تغيير شعبه بشعب آخر. ليس جديدا على التاريخ خيبة أمل سياسيين فى شعوبهم إلى حين يتضح بعد رحيلهم أن غرور حاكم وأنانيته كانتا وراء نفور الشعب. عاصرت هذه الخيبة فى الأرجنتين وتابعتها فى روسيا خلال مرحلتها الانتقالية من الشيوعية إلى المجهول واستمعت إلى شرح مستفيض من زملاء كانوا فى إفريقيا وفى بيرو وبوليفيا.
أرفض القول بأن شعبا كان فاشلا طول الوقت. شعوبنا فى الشرق الأوسط لم تكن فاشلة طول الوقت ولا كانت تعيسة ومتشائمة على الدوام. سعت للنجاح والرخاء والاستقرار ولكنها نادرا ما وجدت الفرصة مناسبة. قيل كسالى لا يعملون وإن عملوا لا ينتجون. وعلى عكس ما قيل هاجروا بمئات الألوف أو بالملايين دليلا على قدرة ورغبة ونية فى التقدم. كانت الطبيعة عائقا لتقدم الشعوب فى بعض المراحل والاستعمار فى مراحل أخرى والسياسيون بفساد بعضهم أو قلة خبرتهم وتجاربهم فى العمل السياسى فى معظم المراحل. ومع ذلك أفلح البعض منهم حين أقاموا جامعة الدول العربية كإحدى أقدم المنظمات الإقليمية فى العالم ووضعوا لها ميثاقا للعمل الإقليمى فشل خلفاؤهم فى تطويره على امتداد سبعين سنة أو أكثر.
• • •
نتساءل ألا يمكن أن يكون السبب وراء هذه السمعة أو الصفات السيئة التى تلصق بالأمة العربية بين الحين والآخر أن النظام الإقليمى بشكله الراهن وحجم عضويته الكبير لم يعد بميثاقه ومنظمته الإقليمية العتيقة يرضى تطلعات وآمال شعوب هذه الأمة؟، يقال إن النظام الإقليمى فشل فراحت الشعوب تبحث عن مصالحها خارج هذا النظام. يقال أيضا إن الشعوب لم تعد تفرز قيادات تجدد بها دماء القائمين على العمل العربى المشترك. الواضح لى ولزملاء كثيرين أن تغييرات بل تحولات كثيرة وقعت فى مؤسسات الحكم ودوائر الاقتصاد والمجتمعات المدنية ووعى الأقليات العرقية والدينية فى عديد البلاد العربية دون أن تنعكس آثارها على عمل وتوجهات وهياكل جامعة الدول العربية، المنظمة الإقليمية ذات التاريخ «العتيد» والميثاق «المجيد».
السنوات القادمة فى حياة أمتنا تبدو لى من على البعد وبالتمنى حبلى بكل ما هو غريب وجديد.