سنوات الحسم

سنوات الحسم

سنوات الحسم

 العرب اليوم -

سنوات الحسم

بقلم - جميل مطر

نعيش مرحلة الخيارات الأهم فى سياسات ومستقبل الدول العظمى ودول أخرى متأثرة بها أو مرتبطة بخيار أو آخر من هذه الخيارات. الساحة الدولية معبأة هذه الأيام بدخان كثيف وغبار أثارتهما سباقات نحو التسلح فى شمال أوروبا وشرق آسيا وأخرى نحو الثروات والقواعد فى أفريقيا وجنوب المحيط الهادئ والشرق الأوسط وشرق آسيا. تجرى السباقات حتى الآن مدفوعة بطاقة ضئيلة من العنف، ولكنه العنف المرشح للزيادة طالما بقيت الأهداف المبتغاة غير محددة الحدود وطالما استمرت المنافسات الاستراتيجية تخضع لحسابات فى غالبيتها غير منطقية أو متخلفة زمنيا. من بين ما يستحق التوقف عنده فى هذه اللحظات الحرجة من التصعيد الحادث على أصعدة كثيرة متابعة المسافة التى لا تزال تفصل بين خيارين أتصورهما مطروحين بشدة أمام صناع السياسة فى أمريكا. خياران لا يتساويان ولا يتوازيان. الخياران هما أن تستعيد أمريكا دورها فتقيم نظاما دوليا متعدد أو ثنائى القطبية تقوده من موقع متميز، والثانى، ولا يطرح كخيار إلا فى حال فشل الخيار الأول، يقضى الخيار الثانى أن تساير الصين وتقيم معها نظاما دوليا تحكمه قواعد تناسب ظروف التحول فى توازنات القوة الدولية كما فرضت نفسها على أرض الواقع.
لا تزال واشنطن تعيش أمل أن تستعيد مكانتها التى كانت تحتلها فى النظام الدولى الذى أثمرته الحرب العالمية الثانية. هذا النظام خططت له أمريكا ولعبت الدور الأساسى فى إخراجه ونصبت لنفسها مكانة خاصة مكافأة لنفسها على جهدها فى الحرب ضد دول المحور. جمعت جميع الدول الكبرى حول مبدأ المساواة أمام الميثاق والرأى العام العالمى مع اعتبار الولايات المتحدة العضو البارز أو الأفضل بين المتساوين. المبدأ نفسه سحبته لينطبق على هياكل ونظم العمل فى الحلف الأطلسى. تتساوى مع فرنسا وكندا فى عضوية الحلف ولكنها يجب أن تظل فى نظرهما العضو الأول والأولى بالهيبة. تتساوى مع جواتيمالا والأرجنتين فى عضوية منظمة الدول الأمريكية ولكن تحتفظ لنفسها بحقوق ونفوذ العضو الأول وصاحب أعلى مكانة.
تعيش على الأمل ولكنها والحق يقال تعمل بشغف ليتحقق لها هذا الأمل. ما زالت تنتج نخبا سياسية مشبعة بفكرة الدور التاريخى لأمريكا فى القيادة والهيمنة. أدركوا فى واشنطن كما أدركنا جميعا أن الصين الجديدة على أى مستوى من مستويات القوة الدولية لا يمكن إلا أن تكون قطبا من أقطاب القيادة. جرت محاولات ولا تزال تجرى محاولات أخرى الغرض منها الضغط على الصين بالحصار والمقاطعة لتقبل بعضوية فى نظام دولى متعدد الأقطاب بشرط الاحتفاظ لأمريكا بمكانة العضو الأول. من أجل تحقيق هذا الهدف تبذل أمريكا جهودا مستميتة وتضع العراقيل أمام جميع المحاولات من جانب الصين وروسيا ودول نامية لتعديل منظومة الأمم المتحدة بحيث تنتفى عن الولايات المتحدة صفة القطب الأول ذى الحظوة والمكانة وتصبح التعددية حقيقية وفاعلة.
بفضل هذه المكانة المتميزة لأمريكا على قمة نظام دولى متعدد الأقطاب أو ثنائى القطبية استطاعت الولايات المتحدة الاحتفاظ بهيبتها ومكانتها بل وتنميتها خلال الحرب الباردة ليصبح ممكنا لها إضعاف القطب السوفييتى وإخراجه نهائيا من معادلة القيادة وربما استطاعت فرض انفراطه. عززت مبدأ الحصار حول روسيا وإمبراطوريتها الشاسعة، وأقدمت على مصالحة تاريخية مع الصين هدفها الأكبر ضرب معنويات إمبراطورية سوفييتية أنهكتها بيروقراطية ثقيلة، ثم سعت لإدخال جيوشها حربا يائسة فى أفغانستان استمرت عشرين عاما وانتهت كما بدأت بطالبان فى السلطة. فى النهاية ومع بزوغ القرن الحادى والعشرين حققت واشنطن حلم الأجيال عندما انفردت بقيادة النظام الدولى، وفى الحقيقة اجتمعت لها مكونات هيمنة، بدت فى ذلك الحين، كافية لتكون مطلقة.
• • •
لم يكن انفراد أمريكا بالقيادة نعمة كاملة بل مرحلة لعلها من بين الأسوأ فى التاريخ السياسى الأمريكى. ففى خلال ربع قرن من الهيمنة الأمريكية المطلقة أو شبه المطلقة، أو ربما بسبب أخطاء جسيمة ارتكبتها خلال ممارسة هذه الهيمنة فقدت أمريكا بعض مكانتها وكثيرا من هيبتها. تأثرت الهيبة بقسوة عندما تعرضت رموز الحضارة الأمريكية فى كل من نيويورك وواشنطن للتدمير. بعدها دخلت أمريكا حربا ضد العراق وحربا فى أفغانستان خرجت منهما فى وضع استراتيجى ومعنوى غير طيب وأقل شأنا. دخلت الحربين بغير تخطيط جيد من ناحية ومندفعة فى أعمال حربية انتقامية غير محسوبة من ناحية ثانية ومدفوعة بالعواطف المتشددة من جانب «شلة المحافظين الجدد» من ناحية ثالثة وفى الوقت نفسه مستجيبة لمصالح اقتصادية غير مجزية العائد.
وفى مرحلة لاحقة ومستمرة إلى يومنا هذا وقعت فى أخطاء دفعتها إليها ظروف الخضوع لمدرسة جيواستراتيجية حلت محل مدرسة الجيو اقتصادية التى هيمنت بدورها خلال مرحلة سادت فيها أفكار ومدارس العولمة. صدر مثلا عن مرحلة المناهج الجيوسياسية المختلطة بمدارس الإبهار الإعلامى والتى صارت تسيطر على السلوك الخارجى قرارا بتوجيه السيدة بيلوسى رئيسة مجلس النواب للقيام بزيارة رسمية لتايوان، وهى الزيارة التى صعدت بحالة التوتر بين الصين وأمريكا إلى حالة أشد توترا غيرت جذريا من طبيعة التطور التدريجى فى المنافسة بين القطبين ولعلها أطاحت بها. فى الوقت نفسه عادت إلى الواجهة أيديولوجية استعداء الصين، كما كان يحدث مع روسيا خلال الحرب الباردة، وهى الأيديولوجية التى استخدمتها وهى تعد الشعب الأمريكى لتحمل تكلفة حرب مع روسيا بينما تتحمل أعباءها القتالية أوكرانيا وتتحمل دول أوروبا مع الشعب الأمريكى أعباءها المالية. مرة أخرى كان الهدف وقف نزيف الهيبة الأمريكية، ولم يتحقق.
أخطأت أمريكا المنفعلة بهوس الانحدار وتراجع المكانة، كما ظهر واضحا فى شعارات حملتى ترامب وبايدن الانتخابيتين قبل أربع سنوات، أخطأت حين سمحت بعودة مرشح تـآمر ضد الديمقراطية قدس أقداسها. أخطأت أخطاء جسيمة حين راحت النخبة السياسية الحاكمة تخطط وتقود حملات تشهير برءوس الحكم. قادت وتقود الرأى العام لانتخاب مرشح خاضع لمحاكمات جنائية خطيرة ومرشح يكاد يفقد القدرة على التركيز لتقدمه فى العمر. أخطأت، وتخطئ، منذ أن قررت العودة للاهتمام بالشرق الأوسط انطلاقا من التزام جديد وأقوى بحماية مصالح الأقلية الصهيونية المهيمنة أكثر فأكثر على مفاتيح السياسة الأمريكية ومواقع القوة فى منظومة الحزبين والحكم فى أمريكا. نعرف ويعرف المتابعون لأحوال الشرق الأوسط عواقب واقعة ومحتملة لهذا الخطأ المتجدد على مستقبل السياسة فى المنطقة.
• • •
مرة بعد أخرى يكتشف الأمريكيون أن النقص فى مكانة أمريكا شجع دولا عديدة صغيرة وكبيرة على حد سواء لرفض أسلوب الإملاءات فى علاقات أمريكا مع حلفائها. أتصور، بناء على ما حدث فعلا خلال الفترة الأخيرة، أن دولا أكثر سوف تقوم بتنويع علاقاتها الخارجية. لن تأتمن طرفا واحدا على سلة ثمارها. أخشى، على كل حال، أن يزداد عدد الدول الصغيرة التى فضلت عسكرة سياساتها الداخلية والخارجية على الاستمرار فى تطوير برامجها الإنمائية والاقتصادية، من هذه الدول مجموعة دول البلطيق. أخشى أيضا أن نتفاجأ بطفرة فى أنشطة الإرهاب الغامض الأصول وزيادة فى عدد الدول النامية المهددة بعدم الاستقرار.
غير خافٍ خطورة ما تمارسه أمريكا من سياسات تجاه الهند وإعدادها لدور كبير فى نظام دولى جديد. أحس بالخطورة فى كل مرة ناقشت فيها الأمر مع من يعرف الهند ونظامها السياسى. تحاول أمريكا جذب الهند كمنافس للصين فى آسيا مع كل ما يعنيه هذا التوجه من دفع للهند نحو اقتصاد متعسكر على حساب تنمية اقتصادية الهند فى أشد الحاجة لها على ضوء كثافة الفقر وتنوع مصادره الإثنية والطائفية والبيئية، وعلى ضوء شكوك متزايدة فى قدرة الديمقراطية الهندية على الصمود فى وجه التعديات الفاشية التى يمارسها الحزب الحاكم وتفرعاته المتشددة. أتصور أن واشنطن لن تسمح طويلا للمنافسة بين الهند والصين أن تستمر سلمية وهادئة فى إطار مجموعة البريكس. تفعل الشىء ذاته عندما تضع خيار بناء بنية تحتية عربية رهنا بوجود إسرائيل المتشددة والمنحازة للفاشية عضوا وشرطا جوهريا ودائما دون أى اعتبار لحال الشعب الفلسطينى الواقع تحت الاحتلال ولمتطلبات إقامة سلم حقيقى فى المنطقة.
لا يغيب عنا أن بعض الحركة السياسية ينبئ بأفكار وخرائط جديدة لمنطقة الشرق الأوسط قد يجرى طرحها قريبا. منها ما طرح بالفعل وتجرى مناقشته ثنائيا أو ثلاثيا. يفيد فى هذا الشأن الاعتقاد السائد فى الغرب أن تبقى الدول «الفاشلة» و«المقسمة» و«المنهكة» على حالها لفترة قد تطول، يفيد أيضا أن تبقى منظومة العمل العربى المشترك مجمدة إلى حين تتضح للشرق الأوسط الجديد معالم وعلامات ما زال أكثرها غير واضح تماما.

 

arabstoday

GMT 13:05 2024 السبت ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حزب الله بخير

GMT 11:57 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مرحلة دفاع «الدويلة اللبنانيّة» عن «دولة حزب الله»

GMT 11:55 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

هل هذا كل ما يملكه حزب الله ؟؟؟!

GMT 20:31 2024 الجمعة ,13 أيلول / سبتمبر

عشر سنوات على الكيان الحوثي - الإيراني في اليمن

GMT 20:13 2024 الخميس ,12 أيلول / سبتمبر

صدمات انتخابية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

سنوات الحسم سنوات الحسم



GMT 13:32 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
 العرب اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 20:44 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
 العرب اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 03:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 06:15 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط وإزالة الحواجز إلى قصرَين

GMT 04:01 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 20:58 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

الجيش الأميركي يقصف مواقع عسكرية في صنعاء

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

موسكو تسيطر على قرية بمنطقة أساسية في شرق أوكرانيا

GMT 14:19 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

إلغاء إطلاق أقمار "MicroGEO" الصناعية فى اللحظة الأخيرة

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

وفاة جورج إيستام الفائز بكأس العالم مع إنجلترا

GMT 17:29 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

سائق يدهس شرطيا في لبنان

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

إصابات بالاختناق خلال اقتحام الاحتلال قصرة جنوبي نابلس

GMT 07:06 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مقتل 6 في غارة إسرائيلية على مدرسة تؤوي نازحين بغزة

GMT 17:33 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

حرب غزة ومواجهة ايران محطات حاسمة في مستقبل نتنياهو

GMT 14:05 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

مي عز الدين بطلة أمام آسر ياسين في رمضان 2025
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab