غزة وحربها الكاشفة

غزة وحربها الكاشفة

غزة وحربها الكاشفة

 العرب اليوم -

غزة وحربها الكاشفة

بقلم - جميل مطر

من أيام غزة الأخيرة تعلمت الكثير. تعلمت الكثير عن شعبها وعن شعوب أخرى. كشفت لنا وسوف تكشف لأجيال عديدة من بعدنا حقيقة أهل الكيان الإسرائيلى. عبرت لى من جديد وبالوضوح الشديد وبكل الصخب الممكن والعنف المتوحش عن نوايا هذا الكيان، بل وعن أصله وفصله وعن أشباهه وفروعه ومشتقاته. وفرت لى مزيدا من الدلائل والمؤشرات على طبيعة وتفاصيل عالم جديد يتشكل. لخصت لى وفى كلمات قليلة وسلوكيات معدودة خريطة جديدة لعناصر القوة فى الشرق الأوسط وعناصر الضعف الموروثة والمستجدة فيه.
• • •
أعادت لى نتفا من ذاكرتى كادت تضيع وتختفى، عدت أتذكر ما صنعته وخلفته ألمانيا من خلال دورها كدولة استعمار حين تفننت فى تعذيب وإبادة شعب إفريقى يسكن إقليما فى أقصى جنوب غرب القارة السمراء، ثم أتذكر ما فعله المهاجرون البيض من أوروبا وبخاصة إنجلترا بالشعوب الأصلية فى القارتين الأمريكيتين. علمتنى عن تاريخ اليابان وكفاح الشعوب ما لم أكن أعلم. لم أكن أعلم مثلا أن المقاومة المسلحة على طريقة الانتحار الجماعى فى وجه المحتل أى الكاميكازى تعنى فى اللغة اليابانية الريح المقدسة، فى إشارة إلى كفاح اليابانيين للتصدى للغزو المغولى القادم من القارة نحوها وعبر البحر فى القرن الثالث عشر الميلادى.
• • •
نعم، عرفت أكثر مما كنت أعرف وتعلمت ما لم أكن أعلم وهو بين كثير مما كشف عنه حتى الآن كفاح يشنه فلسطينيون فى مواجهة عملية إبادة تدعمها وتشترك فى تنفيذها قوى عظمى. أكثر هذه القوى العظمى لا تنفذ ما وعدت به مقابل الاعتراف بها قوى عظمى. كانت جميعها موضع اختبار خلال أزمة غزة. اثنتان، وهما الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تصرفتا خلال الأزمة تصرفات تؤكد حال الإدانة المطلقة لهما بعد سنوات وعقود من ممارسة نفاق المعايير المزدوجة. كلتاهما مارستا بنفسيهما أو شجعتا حلفاءهما على ممارسة الإبادة ضد شعوب فى عالم الجنوب.
هاتان القوتان، سواء تحدثنا عن مراحل صعودهما أو مرحلة انحدارهما، استمرت تلاحقهما سبة العنصرية ونتائج تصرفاتهما المتناقضة مع التزامهما احترام قواعد عمل النظام الدولى القائم ومؤسساته الحقوقية والتنموية والسياسية. المثير أيضا والمستهجن بشدة هو السياسة التى انتهجتها دول أوروبية لمدة طالت أو قصرت، سياسة اعتمدت النفاق وازدواج المعايير مختلطة بعنصرية واضحة تجاه أهل غزة والعرب عموما.
• • •
ما تزال أزمة غزة تثمر أوضاعا جديدة وتفرض سلوكيات بعينها ليس فقط على الشرق الأوسط ولكن أيضا على أقاليم أخرى ومنها أوروبا وأمريكا اللاتينية. من هذه السلوكيات ما يمس نظام ومؤسسات القمة الدولية. أحاول فى السطور القليلة التالية عرض نماذج من هذه الأوضاع والسلوكيات أتصور أنها تسهم حاليا فى رسم أو صنع بعض معالم دورة جديدة فى سلسلة دورات النظام الدولى والنظام العربى وفى الشرق الأوسط بشكل عام.
• • •
أولا: خلصنا من متابعة مضنية لسياسة أمريكا الخارجية فى هذه الظروف الصعبة إلى تقرير أنها سياسة أصابها الارتباك الشديد. قلت فى مناسبة قريبة أن أفضل تجسيد أو تصوير لها هو فيديوهات صحفية تتابع الرئيس الأمريكى الحالى. تصوره صاعدا بصعوبة على سلم طائرته ذى الدرجات العديدة، أو تصوره يمشى منفعلا أو مترنحا بالسعادة وبغيرها على مسرح مزدحم برجال ونساء الخدمة السرية، أو تصوره يلقى بكلمة سياسية شديدة الأهمية وإن سريعة وقصيرة. تصوره فى الأولى مترددا فى اختيار الدرجة اللازمة ليصعد، وتصوره فى الثانية ضائعا فقد نسى موقع الباب الذى دخل منه، وتصوره فى الثالثة متلعثما أو واصفا رئيس دولة حليفة بما ليس فيه أو بما لا يناسبه. تصوره أيضا فى هذه الثالثة غير مصدق وخائب الأمل، فلأول مرة وعلى يديه تثبت الأقلية العربية صلاحيتها وقدرتها على التأثير فى الانتخابات السياسية الأمريكية. هكذا بدت لنا السياسة الخارجية الأمريكية خلال الأزمة الراهنة.
أما الأسباب ففى رأيى تنحصر فى حقيقة أعتقد أنها صارت واضحة للمتعاملين مع السياسة الخارجية الأمريكية. هذه السياسة شاخت. استمدت قوتها فى أوجها من دولة فتية، مؤسساتها متوافقة، قياداتها منتصرة ومتجددة، ومخزن نخبتها عامر بالمبدعين والمجددين. تغيرت أمريكا فانحدرت، أو لعلها شاخت وهى على حالها بينما العالم يتغير من حولها. بالفعل كانت أوكرانيا، حربا أديرت على نمط وتجربة حرب كوريا ثم كانت غزة، أزمة أدارت جانبا هاما منها أدوات السوشيال ميديا بجبروتها، أزمة أديرت فى خضم صحوة مبهرة يشهدها عالم الجنوب ولم تكن أمريكا مستعدة لها، أقصد هذه الصحوة.
• • •
ثانيا: لا أذكر أننى كنت يوما فى حياتى الطويلة شاهدا على دولة صغيرة فعلت بنفسها وبالعالم كله ما فعلت إسرائيل خلال مائة وخمسة وأربعين يوما. حاولت إسرائيل ومن خلال هذه الحرب أن تقول للعالم إنها فوق الجميع. ألقت عليهم، عربا ومسلمين وغرباء، درسا فى مادة العلاقات الدولية الحديثة ودرسا آخر فى مادة توازن القوة العالمى، ودرسا ثالثا فى مادة الأديان المقارنة وبخاصة ما تعلق بأسطورة الشعوب المختارة، ودرسا رابعا فى مادة الابتزاز المتبادل بين دولة عظمى ودولة صغرى. فرضت من جديد «القضية اليهودية» ونجحت فى هذا الفرض.
طرحت السؤال الباحث منذ زمن عن إجابة مقنعة، سألت بين ما سألت «من يستخدم من: الأمريكى يستخدم الإسرائيلى أم العكس؟». نعرف أن إسرائيل أبدعت فى فن الضغط على أمريكا بأمريكا ذاتها كما سبق وفعلت مع بريطانيا العظمى حتى قبل نشأتها. سمعنا روايات تحكى عن حقيقة ما حدث فى اليوم السابع من شهر أكتوبر، من الروايات رواية أن واشيا أو خبيرا أو ناصحا أبلغ إسرائيل قبل السابع بشهور عن خطة رسمتها المقاومة لغزو مستوطنات على غلافها، فاستعدت الحكومة لليوم التالى ليوم الغزو وإن أظهرت أنها لم تستعد للسابع نفسه وفى وقته. روايات أخرى تحدثت عن اطمئنان كامل وثقة تامة فى أن دول الجوار لن تتدخل عسكريا احتراما لاتفاقيات وقعتها قبل الغزو بكثير جدا أو بقليل جدا.
منذ نشأتها وقفت إسرائيل مرات عديدة ضد العالم، آخرها الإعلان الصريح من موقع فريد للقوة، موقع التهديد بإبادة الفلسطينيين جميعا بالتهجير أو القتل، عن قرار رسمى وشعبى برفض حل الدولتين وسيلة لتحقيق السلام. لن تكون هناك دولة فلسطينية طالما بقيت هناك دولة لبنى إسرائيل على الأرض الموعودة وليذهب العالم إلى الجحيم فجميعه، حسب أصول العقيدة الدينية، معاد للسامية وفى باطنه عداء مستتر لدولة إسرائيل. بالفعل كانت انتفاضة غزة هذه المرة كاشفة لمدى الكره الذى تحمله حكومة إسرائيل وبعض شعبها لغير اليهود، كاشفة أيضا للصعوبة البالغة التى سوف تواجهها الدبلوماسية العالمية فى الشهور وربما السنوات القادمة فى كل محاولات البحث عن حل. نعرف على الأقل أن جميع القادة العسكريين والمدنيين المسئولين عن إدارة هذه الحرب أعلنوا عشرات المرات أن هذه الحرب سوف تستمر لأعوام وليس لشهور. عدد غير قليل من المراقبين والخبراء الذين التقيت بهم يعتقدون أنه من الواضح تماما من هذه التصريحات وغيرها من السلوكيات أن الخطة كما تنفذ لم ترسم على عجل عشية السابع أو الثامن من أكتوبر، بل أخذت زمنا لتتبلور وتستعد للتنفيذ.
ثالثا: لم أرتح كثيرا للموقف البارد نسبيا لكل من روسيا والصين من الحرب ضد الفلسطينيين، ولكنى أتفهمه. بالموقف البارد أقصد الدعم السياسى والإعلامى الروسى والصينى للفلسطينيين بدون صخب أو تعهدات والتزامات عسكرية. موقف فى جوهره لا يبتعد كثيرا عن الموقف الرسمى العربى الأمر الذى يجعلنى أقترب من تفهم الموقفين الروسى والصينى. بمعنى آخر أدرك تماما أنه فى الحالتين تتعرض الحكومات لضغط شعبى كبير وهى تعلم تماما أن التدخل بشكل آخر غير الدعم المعنوى كفيل بأن يتسبب فى رد فعل عنيف من جانب القوى الغربية وبخاصة الولايات المتحدة. سمعت كثيرا من المقارنات والمشابهات بين ما يسمى بالحالة الأوكرانية والحالة الإسرائيلية. فى إحداها يشبهون مكانة أوكرانيا لدى روسيا بمكانة إسرائيل لدى الولايات المتحدة. وفى الحالتين يمكن للطرف الأعظم التدخل بكل العنف الممكن والمال اللازم لحماية الطرف الأصغر وهو بالضبط ما حدث فى الحالة الأوكرانية واستعد ليحدث فى الحالة الفلسطينية بتحريك أمريكا لعديد الأساطيل الغربية إلى المنطقة.
بمرور الوقت واستمرار حرب الإبادة بلا هوادة كان لا بد لكل من الصين وروسيا الانتباه إلى أن استراتيجية الاعتماد على مكاسب للصين تتحصل عليها من خسائر لأمريكا من وراء استمرارها في دعم حرب الإبادة الناشبة ضد الفلسطينيين لم يعد مجزيا. تقارير وراء تقارير راحت تؤكد الاتساع المتوالى للخرق فى نسيج العلاقات الأمريكية بدول عالم الجنوب نتيجة موقفها الداعم لإسرائيل.
نقرأ الآن عن أسطول صينى يحمل رقم 46 خصصته بكين على ضوء تمدد حرب غزة نحو جنوب البحر الأحمر. فى الوقت نفسه وربما لأسباب أكثر تنوعا شكلت موسكو جيشا روسيا يتخصص فى شئون إفريقيا المرشحة لعدم استقرار وغليان أشد ضد الاستعمار الغربى المستحكم فى القارة. من جانب آخر صارت اتفاقية تركيا مع أرض الصومال تشكل مادة استراتيجية يشترك فى الاهتمام بها روسيا والصين وحلف الأطلسى بالإضافة إلى اهتمام خجول ولكن متصاعد من جانب دول عربية متشاطئة للبحر الأحمر أو قريبة منه ومتوجسة شرا. من جانب رابع، أتوقع مزيدا من النمو والفعالية لمشروع إقامة ممر برى يبدأ فى الهند وينتهى فى ميناء إسرائيلى، وإن صح توقعى هذا فسوف يتبعه بالتأكيد أو فى الغالب إقامة سلسلة من القواعد العسكرية لحمايته، ولن أبالغ إن توقعت حلفا عسكريا يجمع كافة الدول الواقعة على الممر والمستفيدة منه.
• • •
تلك كانت نذرا قليلة من كثير من علامات حاضر دولى وشرق أوسطى وآسيوى وإفريقى، حاضر ممتد فى المستقبل، ساهمت فى صنعه وتهذيبه خطة حرب إبادة إسرائيلية بدعم أمريكى.

 

arabstoday

GMT 06:57 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

سبع ملاحظات على واقعة وسام شعيب

GMT 06:46 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

المالك والمستأجر.. بدائل متنوعة للحل

GMT 06:42 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران ولبنان.. في انتظار لحظة الحقيقة!

GMT 06:41 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

أوهام مغلوطة عن سرطان الثدي

GMT 06:31 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

من جديد

GMT 06:29 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

رُمّانة ماجدة الرومي ليست هي السبب!

GMT 06:28 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

لقاء أبوظبي والقضايا الصعبة!

GMT 06:23 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

الفاتيكان... ومرثية غزة الجريحة

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

غزة وحربها الكاشفة غزة وحربها الكاشفة



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 12:17 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

الجيش السوداني يعلن تحرير مدينة سنجة عاصمة ولاية سنار
 العرب اليوم - الجيش السوداني يعلن تحرير مدينة سنجة عاصمة ولاية سنار

GMT 11:15 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين عبد الوهاب توضح حقيقة حفلها في السعودية
 العرب اليوم - شيرين عبد الوهاب توضح حقيقة حفلها في السعودية

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 20:51 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أشرف حكيمي يمدد عقده مع باريس سان جيرمان حتي عام 2029

GMT 18:53 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

منة شلبي تقدم شمس وقمر في موسم الرياض

GMT 09:37 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

ثوران بركاني جديد في أيسلندا يهدد منتجع بلو لاجون الشهير

GMT 22:00 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

كريستيانو رونالدو يدرس تأجيل اعتزاله للعب مع نجله

GMT 11:06 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

مستشفى كمال عدوان بدون أكسجين أو ماء إثر قصف إسرائيلي مدمر

GMT 10:21 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

إسرائيل اعتقلت 770 طفلاً فلسطينيًا في الضفة منذ 7 أكتوبر

GMT 12:02 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

قصف إسرائيلي يقتل 8 فلسطينيين في حي الشجاعية شرقي مدينة غزة

GMT 08:39 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

أجمل السراويل الرائجة هذا الموسم مع الحجاب

GMT 16:52 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

نتنياهو يرد على قرار المحكمة الجنائية الدولية

GMT 17:12 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

حزب الله يعلن قصف قاعدة عسكرية في جنوب إسرائيل لأول مرة

GMT 07:01 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab