بقلم - جميل مطر
«دى فيينا روضة من الجنة»، مبالغة فى مطلع أغنية لأسمهان سمعتها مراهقا فى أواخر الأربعينيات من القرن الماضى، واختبرتها شابا عندما أتيحت لى زيارة النمسا فى أوائل الستينيات، واستقرت إعجابا وهياما على امتداد عمر طويل من خلال زيارات متعددة ومتابعات محببة.
• • •
كنت بالأمس القريب أحتفل بالعيد، ومعى بالبيت الابنتان وزوجاهما. ترامى إلى سمعى على البعد صوت أسمهان يشدو ناعما وغنيا بأغنيتها المفضلة عندى عن أيام الأنس فى فيينا. فورا تفتحت الذاكرة عن تفاصيل أيام عيد مماثل لهذا العيد الذى نعيش فى القاهرة. نما إلى حسى أن شيئًا ما فى مكان ما يبعث لى برسالة. تحركت الذاكرة. رأيت نفسى فيها داخل سيارتى «التاونوس» أقودها نحو طريق كنت أعرف أنه يبدأ فى ضاحية من ضواحى مدينة روما، حيث كنت أعمل، ويمكن أن ينتهى لو أردت فى مكان بعينه عند السفوح الجنوبية لأحد سلاسل جبال الألب فى أقصى شمال إيطاليا.
• • •
جلس إلى جانبى فى السيارة حسب شهادة الذاكرة سامى ثابت زميلى فى المهنة، أقصد فى الدبلوماسية، وقد عملنا معًا فى نيودلهى قبل أن يلحق بى فى سفارتنا بروما. كنا فى اليوم الفائت قد اتخذنا قرارًا أن ننتهز فرصة عطلة العيد للسفر معًا فى رحلة تأخذنا إلى فيينا. هناك اختارت زوجتى أن تقضى بعض الصيف هى وطفلانا فى ضيافة أبيها وأمها.
• • •
كانت رحلة الطريق فى حد ذاتها مغامرة. لم يوجد فى قائمة تجاربنا، سامى وأنا، فى قيادة السيارات ما يوحى بالثقة. أذكر أننى قدت لمسافة قصيرة سيارة فى شارع الملكة نازلى المزدحم دائمًا بالمرور وإلى جانبى نجل صاحب السيارة وكلانا دون السادسة عشرة من العمر، وكلانا لا نحمل رخصة قيادة. أذكر أيضًا أننى عدت إلى المنزل لأعد والدى بأننى لن أكرر ما فعلت إلا بعد أن أتدرب جيدًا على قيادة السيارات، وأحصل على رخصة القيادة. تلقيت تدريبا مختصرا فى القاهرة وفى الهند قدت بعده سيارة لمسافات قصيرة ومقودها على اليمين. أما سامى رفيق السفر فجل خبرته على الطرق قضاها فوق «فيسبا»، أقصد الدراجة البخارية الإيطالية الصنع التى اشتهرت به فى العاصمة الهندية واشتهر بها.
• • •
ها نحن، سامى وأنا، فى سيارة تنهب بنا الطريق على سهل البيدمونت شمال إيطاليا وأمامنا من خلف الضباب تلوح قمم الألب تنتظر وصولنا إلى سفوحها فى رحلة صعود لم نجرب مثلها من قبل. توقفنا فى قرية عند سفح من هذه السفوح لنتناول غذاء خفيفا أعدته أمامنا صاحبة المطعم وجلست معنا وفى يدها كأس نبيذها. راحت تسأل عن أمور تصب جميعها فى خانة نقص الثقة فى قدرتنا على صعود الألب. ارتاحت عندما استجبنا لطلبها تزويدها بأرقام وبيانات لوحة السيارة وتفاصيل مدرجة فى بطاقتنا الدبلوماسية ووعد بأن نتصل بها فور وصولنا إلى أول قرية نمساوية على الحدود. قالت: «ابنى ضابط شرطة يقوم بجولات يومية على الطريق يتابع المرور ويبلغ عن المخالفات ويستعجل جهات الإسعاف إن دعت الضرورة». تأثرت باهتمامها بسلامتنا وبخاصة عندما أصرت على أن نشرب الإسبريسو «على حسابها» منوهة بالسمعة الطيبة للقهوة الإيطالية التى تفوقت على سمعة القهوة النمساوية حسب رأيها. مبالغة إيطالية مستحبة كغيرها من المبالغات الإيطالية، وما أكثرها.
• • •
لم نمكث إلا دقائق معدودة فى كلاجنفورت، أول مدينة نمساوية ندخلها. غريبة أحوال أوروبا، أو قل غريبة حضارة أوروبا وثقافتها. مجرد حدود رسمتها حروب أو مصاهرات ولكنها استطاعت فى كل مكان وجدت فيه أن تصنع ثقافة سياسية وطباعًا وقيمًا اجتماعية تختلف فى ناحية من الحدود عن ثقافة وطباع وقيم فى الناحية الأخرى، حتى اللغة والملابس الوطنية.
• • •
كانت الرحلة من الحدود إلى العاصمة النمساوية ممتعة بكل المعانى. أزعم أنها كانت فى زمن رحلتنا أكثر إمتاعا من رحلة مماثلة نقوم بها فى الزمن الراهن. تخدعنا فى زمننا الراهن عناصر السرعة والتنظيم الدقيق وإجراءات السلامة القصوى لأنها تحرمنا من الانشغال بجمال الطبيعة وتفاصيلها. تحرمنا أيضا من ممارسة هواية اجترار لحظات فى التاريخ مثل جحافل جيوش مرت من هنا أو عسكرت أثناء حصار أحبط للعثمانيين مشروع تمديد حدود امبراطوريتهم الأوروبية.
• • •
أذكر أننا توقفنا أكثر من مرة رغم قلقنا المتجدد من هبوط الظلام قبل الوصول إلى فيينا. توقفنا لنقارن بين ما توفر لدى كل منا من معلومات تاريخية. «هنا على هذه الأرض المحيطة بنا وهذه الجبال وتلك الوديان الغائرة فى سلاسل الجبال، هنا مرت جيوش خطت بدماء جنودها اسم النمسا منطوقا بلغة القبائل المنتصرة. حدث هذا فى السنوات الأخيرة من الألفية الميلادية الأولى. هنا أيضا سرت كالبرق فى أوائل القرن التاسع عشر أخبار ثورة فرنسا ولقرن بعدها لم تعرف أوروبا أى راحة من أى نوع، ولا عرفت الملل. قرن، لعله الأشهر أو من الأشهر بين قرون التاريخ الحديث، قرن أوروبى بحق، قرن اختلطت فيه فرقعات القنابل وأناشيد الجيوش الزاحفة ذهابًا وإيابًا وبدائع موسيقى الصالونات وحكايات عن دبلوماسية العباقرة الذين صاغوا نظام توازن القوى وهتافات الثوار وكثير منها أعيد صياغته ضمن دساتير وقيم الحضارة الأوروبية كما نعرفها الآن».
• • •
حل المساء وبدت لنا فيينا من على البعد بأنوارها تلح علينا أن نسرع فالشوق متبادل والتوقعات عالية. فكرنا فى كل هذا وأكثر منه، كنا نرسم فى أذهاننا صورا للمدينة التى شهدت ميلاد امبراطوريتين فى قرن واحد وشرفت بأن تكون العاصمة لهما، شهدت أيضًا ميلاد الهابسبرج أشهر عائلة مالكة فى أوروبا حكمت ممالك وامبراطوريات عديدة ومتصارعة فى أحيان كثيرة، المدينة التى كانت تشرف على معارك تاريخية أكثرها صنع أو أنهى فصلًا أو آخر فى تاريخ القارة، شهدت كل هذا بينما كانت تجلس فى صمت الملائكة ووقار الكنائس تنصت بكل التقديس والإعجاب إلى روائع موسيقى عصورها.
سؤال ظل حائرًا بيننا على امتداد رحلة السيارة. هل يا ترى اتسعت فيينا لكل هذا التاريخ وآثاره وحكاياته؟ سمعنا عن مدن لم تحتمل ثقل أقدام الغزاة فتضعضعت حصونها، وقرأنا عن مدن، لم تقو على صد الواهمين فخسرت أحلامها، وعشنا فى مدن ضاقت بها حدودها فانكمشت حتى ذبلت، ودرسنا تاريخ مدن أنكره عليها الجهلاء فراحت تهذى حتى ضاق بها أهلها. المدن كائنات تحيا وتنمو على حب أبنائها وبناتها، كائنات يجف عودها وتتكسر غصونها إذا غاب عنها هذا الحب.