سياسات مختلفة لعالم مختلف

سياسات مختلفة لعالم مختلف

سياسات مختلفة لعالم مختلف

 العرب اليوم -

سياسات مختلفة لعالم مختلف

جميل مطر
بقلم - جميل مطر

لم يعد من المبالغة فى شىء القول بأننا نقف على مشارف عالم جديد. أذكر كيف كنا نقترب بحذر من استخدام عبارة عالم جديد عندما نناقش احتمالات استمرار انحدار دولة عظمى واستمرار صعود دولة أخرى أو عندما نعرض لبوادر انهيارات جماعية فى اقتصادات دول فى الجنوب. كنا نشعر أحيانا كمن ينتقل من الكتابة عن عالم الواقع كما نعيشه إلى الكتابة عن عوالم خائلية لم نعشها وفى الغالب لم نحلم بها.
اخترت اليوم حال الدبلوماسية التقليدية مدخلا وموضوعا لمقالى الأسبوعى لإيمانى بأنها فى أى دولة توجد يجب أن تحتل مكانتها باعتبارها الأداة الأمثل بين أدوات صارت عديدة ومتداخلة لتنفيذ السياسات الخارجية للدولة. صار المعلقون وبعض الساسة يلقون عليها باللوم فى حال فشل هؤلاء الساسة تنفيذ ما وعدوا به. يلقون على الدبلوماسية باللوم سواء كانت لها مسحة دور ضئيل فى التنفيذ أو كانت مستبعدة أو مهملة فعليا.
درسنا فى شبابنا وبالعمق الكافى دور الدبلوماسية المصرية فى تنفيذ سياسة كسب تأييد دول العالم فى سعينا لتحقيق جلاء الاستعمار البريطانى، ودورها فى صنع جامعة الدول العربية وتسييرها وصيانتها وحمايتها فى مواجهة النزاعات العربية، ودورها فى تدبير وصياغة تحالف مع المملكة العربية السعودية كان له الفضل فى تثبيت دعائم نظام إقليمى عربى ناشئ. لم ننكر فى شبابنا فضل دبلوماسيتنا المصرية على تحقيق ما عرف بالنصر السياسى فى حرب السويس أو قيادتها الحملة الشاملة لرفض حلف بغداد مؤكدة موقفها الثابت منذ العصر الملكى ضد سياسات الأحلاف الغربية. الوارد فى هذه السطور ليس حصرا بأى حال ولكن عرضا لبعض الأدوار التى لعبتها الدبلوماسية المصرية ليس فقط باعتبارها أداة تنفيذ للسياسة الخارجية ولكن أيضا كصانعة سياسة. الحصر يطول إن احتجنا إليه.
●●●
مصر على مشارف عالم جديد. بدت لنا المشارف فى غالبيتها العظمى شديدة التعقيد وعامرة بالمفاجآت. كان الصعود الصينى بين هذه المشارف لمدة غير قصيرة حتى صار حقيقة واقعة وعلامة من أهم علامات عالم جديد. ما لا يعرفه الكثيرون من أبناء وبنات الأجيال المعاصرة فى مصر والعالم الخارجى أن دبلوماسيتنا كانت بين الأسبق فى الاعتراف بالصين قوة دولية ناهضة. سمعت شو اين لاى وكان وزيرا للخارجية مدعوا لحفل غداء فى سفارة مصر ببكين وكنت وقتها ملحقا دبلوماسيا بها، سمعته يشيد بالدبلوماسية المصرية التى كانت بين دبلوماسيات دول قليلة العدد، هى الهند وإندونيسيا ودول أوروبا الشرقية، أقامت علاقات مع الصين فى مرحلة مبكرة رغم الضغوط الأمريكية. مر على هذا الحفل حوالى خمس عشرة سنة عدت بعدها إلى الصين مع وفد يمثل مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية فى مؤسسة الأهرام وقضينا سهرة مع شو اين لاى امتدت لحوالى ست ساعات عاد يردد خلالها الإشادة بجرأة وإبداع الدبلوماسية المصرية.
نعيش اليوم إرهاصات وربما الكثير من التقلصات المصاحبة لولادة هذا العالم الجديد. فى مثل هذه الظروف يفترض أن تكون الدبلوماسية أول من يستعد فى الدولة لمرحلة غير عادية وبخاصة إذا كانت هذه الدولة من الدول التى جربت ذات مرة، بل مرات، لعب دور متميز بين «نشطاء» السياسة الدولية. مصر كانت واحدة من هذه البلاد واستخدمت دبلوماسيتها حتى أبعد الحدود وجنت من ورائها فوائد جمة ودفعت ثمنا فى المقابل.
لا أظن، ولا أتمنى، أن يكون بين الخيارات المتاحة فى السنوات القادمة إبطال مفعول هذه الأداة أو إضعافها والتعويض باستخدام أدوات أخرى أقل كلفة. ينسون أو يتجاهلون حقيقة أن الخبرة بالشئون الدولية تأتى بالتراكم شأنا بعد آخر وجيلا وراء آخر وبالانغماس المكثف والأعمق فى قلب وثنايا جماعة فريدة تمارس بكل الحب والفخر واحدة من أقدم المهن فى التاريخ. لست، ولن أكون، واحدا من المبشرين بالذكاء الاصطناعى بديلا للدبلوماسية كما نعرفها أو حتى مكملا لها.
صعود الصين وحده لا يمثل علامة من علامات عالم جديد. فالصعود فى حد ذاته أحد ثلاثة عناصر تشكل مجتمعة شرطا من شروط مرحلة يجرى خلالها التمهيد لهذا العالم الجديد. هذه العناصر هى صعود الصين وانحدار أمريكا وحرب وسياسات إزاحة روسيا أو تطويعها، بالإضافة إلى ما يحيط بهذه العناصر من تعقيدات وصعوبات تعكس نفسها فى تصرفات دول أخرى.
من العلامات أيضا عودة السباق على أفريقيا محكا لسباق أكبر وأوسع بين الدول الكبرى على الثروات المعدنية التى تزخر بها القارة السمراء. من هذه المعادن ما ازدادت أهميته مع التقدم الصناعى والتكنولوجى مثل اليورانيوم والكوبلت والليثيوم والتربة السوداء والغاز. حديثا انضمت إلى السباق روسيا والصين ولم تكن أى منهما طرفا فى السباق الأول الذى انعقد من أجل الاتفاق على تفاصيله ورسم خرائطه وتنفيذه مؤتمر فى برلين فى أواسط الثمانينات من القرن التاسع عشر. المتابع لتاريخ السباق لا يستطيع أن يخفى عن متسابقى المرحلة الثانية، وأقصد الراهنة، حقيقة أليمة وهى أن السباق فى مرحلته الأولى انتهى إلى حرب عالمية رهيبة. غير خاف علينا أو مستتر حال التوتر العسكرى الراهن فى منطقة غرب ووسط أفريقيا منذ أطلقت عاصمة النيجر إشارة البدء فى مقاومة السباق على أفريقيا فى مرحلته الجديدة.
استجدت حقائق. لم توجد دول أفريقية مستقلة فى المرحلة الأولى ولم يوجد قانون إنسانى دولى ولا قواعد عمل من نوع ما صاغته الدبلوماسية الأمريكية خلال وبعد الحرب العالمية الثانية. كل هذه الأشياء والابتكارات موجودة الآن وفى مقدمها حقيقة هامة وهى أن الدول المستعمرة لم تحسن تطوير مستعمراتها حتى انتهت المستعمرات إلى شكل دول عاجزة عن حماية وإدارة ثرواتها وشعوبها ونخبها السياسية والعسكرية. أفريقيا مهددة الآن ولهذا السبب بعجز فى إيمان شعوبها بالديموقراطية وبعجز فى الثقة بالرجل الأبيض وبالحكومات العسكرية. أفريقيا مهددة أيضا بحلقات متصلة من الانقلابات وباحتمال أن تصير سوقا للسلاح والحروب تتنافس فيه وتتقاتل شركات من مرتزقة الحرب ومرتزقة السياسة الخارجية والداخلية على حد سواء ولدينا فى شركة فاجنر الروسية والميليشيات المتمركزة فى ليبيا وقوات الدعم السريع فى السودان النموذج المستجد فى عالم جديد.
أشارك الدبلوماسية المصرية حيرتها وترددها إزاء الدور الذى يمكن أن تؤديه فى هذه الظروف الانتقالية لتخدم به أمن مصر القومى، وكما هو معروف فقد تهدد هذا الأمن أكثر من مرة فى السنوات الأخيرة بفعل متغيرات عالم جديد يتشكل فى أفريقيا ولم تكن دبلوماسيتنا رغم خبرتها الطويلة جاهزة للتعامل مع هذه المتغيرات المتلاحقة. قيل إنها لم تكن مكتملة التدريب لمواجهة هذه المتغيرات خاصة وأنها كانت قد انتحت، أو نحيت جانبا. فى المقابل فقدت الدبلوماسية خلال هذه المرحلة بعض مكانتها وأخشى القول إنها تعرضت لأزمات ثقة فى النفس والدور. لا بد من الاعتراف بأن مصر نأت بنفسها عن أفريقيا وقضاياها لسنوات وربما عقود متسببة فى فراغ ملموس بعد أن كانت سياسات مصر الأفريقية وبعض دبلوماسيتها التقليدية ملء أسماع وأبصار القائمين على العمل الأفريقى فى أفريقيا والعالمين العربى والدولى.
يطل علينا من وسط مشارف العالم الجديد تطور آخر لعله من أهم ما ينتظر دبلوماسية مصر فى السنوات القادمة. تطل علينا موجات هجرة متعددة الأجناس والأشكال، أكثرها محفوف بمخاطر غير محدودة. أهم الموجات تلك الناشئة فى الشرق الأوسط حيث كانت لنا مصالح ترتبط ارتباطا حيويا بالأمن القومى المصرى حسب ما كان معروفا فى فهم ووعى النخب الحاكمة المصرية عبر الأجيال. يشترك فى نشأة هذه الموجات التفاوت الزاعق غالبا فى دخول ومستويات معيشة شعوب تجاورت قبل أن تتكثف وتتعمق فرص التعارف بينها. لم يعد رخاء شعوب أوروبا والولايات المتحدة أمرا وواقعا بعيدا عن جوع ومآسى وفقر بعض شعوب الشرق الأوسط وأكثر شعوب أفريقيا. يشترك أيضا وبوتيرة متصاعدة فى نشأة وصعود هذه الموجات حاجة دول أوروبا واليابان، وكذلك الصين عما قريب، إلى سكان من الخارج تستعيد بهم شبابها وحيويتها أو ليتمكن السكان الأصليين من التفرغ لمزاولة مهن العالم الجديد وأغلبها معتمد على تكنولوجيات ووسائط غير مألوفة للبشر الآخرين من أصحاب الذكاء الطبيعى. لم تكن مصر بمنأى عن هذه الموجات العابرة والمستقرة والناشئة على أرضها، وأخشى أنها لن تكون.
كثيرة هى الأسئلة عن مستقبل الدبلوماسية المصرية وهى على مشارف عالم جديد. عالم يعتمد فيه نهر النيل على وضع جديد لم تستعد له مصر الاستعداد الكافى أو حتى المناسب. أتصور أن إجابات كثيرة على أسئلة الناس فى كل من مصر والسودان لن نجدها عند الدبلوماسيين الذين يفترض أنهم أداروا معركة التفاوض مع دبلوماسيات عربية وغربية وإفريقية وأثيوبية ساهمت جميعها بشكل أو بآخر فى صنع أسطورة سد النهضة ولم تحسن صنع سبل تفادى آثارها السلبية.
من ناحية أخرى لا أشك للحظة واحدة فى أن قادة الدبلوماسية المصرية يستعدون لمرحلة هى الأصعب والأكثر دقة وحرجا فى تاريخهم وتاريخها. ففى هذه المرحلة سوف تحاول الدبلوماسية المصرية أن تجوب ساحة توازن القوى فى المنطقة سعيا لاحتلال موقع جديد لمصر فى غياهب نظام إقليمى يتحول ويتشكل من جديد بشدة وبسرعة. أظن أن الدبلوماسية المصرية بسبب ظروفها الخاصة فاجأها بعض تحولات النظام الدولى وصعوبات الاقتصاد الداخلى. فاجأتها أيضا الأوضاع المتدهورة فى أكثر من ست دول عربية. صدمتها ولا شك هجمات دول الجوار فى لحظة تاريخية واحدة، عادت تفرض نفسها وسياساتها وطموحاتها على الدول العربية كل على حدة أو فى مجموعات، حققت لنفسها فى سنوات أو شهور ما لم تحققه على امتداد عقود وربما قرون.
●●●
يطول الحديث وينتهى غالبا كما انتهى من قبل عند أهمية الاقتناع بضرورة إفساح المجال للدبلوماسية المصرية لتعود كما كانت عنصرا خلاقا ومبدعا فى ساحة الأمن القومى.

arabstoday

GMT 13:05 2024 السبت ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حزب الله بخير

GMT 11:57 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مرحلة دفاع «الدويلة اللبنانيّة» عن «دولة حزب الله»

GMT 11:55 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

هل هذا كل ما يملكه حزب الله ؟؟؟!

GMT 20:31 2024 الجمعة ,13 أيلول / سبتمبر

عشر سنوات على الكيان الحوثي - الإيراني في اليمن

GMT 20:13 2024 الخميس ,12 أيلول / سبتمبر

صدمات انتخابية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

سياسات مختلفة لعالم مختلف سياسات مختلفة لعالم مختلف



GMT 10:34 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
 العرب اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 13:32 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
 العرب اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 10:29 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
 العرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 03:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 06:15 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط وإزالة الحواجز إلى قصرَين

GMT 04:01 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 20:58 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

الجيش الأميركي يقصف مواقع عسكرية في صنعاء

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

موسكو تسيطر على قرية بمنطقة أساسية في شرق أوكرانيا

GMT 14:19 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

إلغاء إطلاق أقمار "MicroGEO" الصناعية فى اللحظة الأخيرة

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

وفاة جورج إيستام الفائز بكأس العالم مع إنجلترا

GMT 17:29 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

سائق يدهس شرطيا في لبنان

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

إصابات بالاختناق خلال اقتحام الاحتلال قصرة جنوبي نابلس
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab