بقلم - جميل مطر
المبالغة متعمدة فى هذا العنوان. الغموض أيضا متعمد. المبالغة متعمدة فما نمر فيه من أحداث يرقى أكثرها إلى مستوى الكوارث بينما تتعمد الدول صاحبة الشأن النزول بها إلى مستويات أدنى كثيرًا من مستوى الكوارث. نشأ الجيل الذى أنتمى إليه على الثقة فى صدق حدسه والشك فى تقديرات السلطة، ابتداء من السلطة الأبوية وانتهاء بسلطة السياسة. أما الغموض المتعمد فوراءه حالة سيولة جرفت فى طريقها ثوابت ليست قليلة وكشفت عن نوايا أجاد أصحابها إخفاءها لسنوات وربما لعقود، وبين ما جرفته السيول من ثوابت وما كشفت عنه من تفاصيل تاريخ لم تمتد إليه بعد يد التدوين، تفاصيل أقل ما توصف به أنها صارخة كما تحكى السطور التالية:
أولا: منطقتنا تعيش أجواء تهديد حقيقية ورهيبة. كنا قبل عقود عندما نسمع عبارة الشرق الأوسط على لسان مسئول غربى أو آخر نسارع فنحتمى بشعارات العروبة وتاريخ العرب وأصالتهم ورسالتهم. كنا واثقين من حتمية «الحل العربى»، حتى حل يوم غير بعيد، أفقنا مصدومين على صوت المؤذنين بقرب حلول «شرق أوسط جديد». سمعنا ولأول مرة فى تاريخنا من ينكر علينا حقنا فى الوجود هنا وهناك. عدنا كعادتنا إلى شعاراتنا فلم نجدها إلا قليلا، وما وجدناه وحاولنا النطق به حسب عادتنا خرج من حلوقنا وعلى غير العادة مبحوحا. لم نصدق ما رأينا. الغريب الشرير القادم من بعيد محتميا بقطب دولى مغامر ومنهك احتل أراضينا ودمر بيوتنا ويهدد وجودنا باسم الشرق الأوسط الجديد.
ثانيا: ثم جاء يوم تجاوز فيه الظالمون كل مدى. انتقلوا من حملة تهديد الوجود إلى حملات ازدراء متعمدة وإهانات لم ترع حرمة ولا أصل ولا دين ولا تاريخ ولا شرعية. لم يخطر على بالنا، نحن أبناء جيل الاستقلال والتحرر، أن ينضم رئيس أقوى دولة فى النظام الدولى الراهن، ينضم بشخصه وبلسانه وبكل هيلمانه، إلى حملات الازدراء والإهانة كاشفا عن خطة جهنمية جرى التخطيط لها منذ شهور مع نتنياهو وقادة جيوشه الإعلامية والسياسية والمالية فى المجتمع الأمريكى، هدفها تشتيت الفلسطينيين ومعهم إضعاف هيبة النظام الإقليمى العربى بإثبات عجزه عن حماية شعاراته ورموزه وبخاصة قضيته الأولى. كاد يتأكد ضعف الهيبة من تعدد الاجتماعات العربية ناقصة الإجماع العربى عندما صار النظام الإقليمى، الذى هو رمز الوجود العربى، مهددا فى مصيره وفى تنظيمه وفى فعاليته كطرف أساسى فى النظام الدولى الراهن.
ثالثا: أمام ضراوة هجمة الصهيونية، المتحالفة عضويا مع أبشع نوع من أنواع الاستعمار العنصرى الذى يمثله وللآسف الشديد المجموعة الجديدة المهيمنة على البيت الأبيض، أصيب النظام الدولى بالشلل. لا يخفى على متابع لتطور السياسة على مستوى القمة الدولية أن كلا من الصين وروسيا تعمد أن يسلك مسالك حذرة فى انتظار وصول السيد ترامب إلى مكتبه بالبيت الأبيض. لا يخفى قدر الحيطة والحذر الذى تبناه الاتحاد الأوروبى وبعض قادة المجموعتين العربية والإسلامية وقادة أمريكا الجنوبية وأفريقيا خلال فترة انتظار استلام ترامب لمهامه. الأمر اللافت أيضا هو حجم الغضب الذى تعكسه سلوكيات قادة عديدون فى هذه التجمعات نتيجة للتهديدات المذهلة التى وجهها الرئيس الأمريكى وجماعته خلال أقل من شهرين لأغلب دول العالم وقادتها ملوحا بعصا الصهيونية العالمية ونفوذ مجموعات الأوليجاركية الجديدة فى أمريكا وخارجها.
• • •
أخلص مما سبق إلى أن العالم يعيش هذه الأيام فى ظل نمط غير مألوف من التفاعلات على مستوى القمة الدولية. هذا النمط يكاد يقترب من حال الفوضى فى كل مرة غلب على تصرفات طرف أو بعض أطراف القمة عنصر الانقلاب فى المفاهيم والسلوكيات أو عنصر المفاجأة فى برامج تسلح بشكل يهدد توازن القوى القائم. الجديد أو الطارئ فى الوضع الراهن هو الدرجة القصوى من حال عدم القدرة على التنبؤ التى اتصف بها نظام حكم الرئيس الأمريكى الجديد. جديد وطارئ أيضا هو لهجة وأساليب الإهانة أو الازدراء فى تعامل هذا النظام مع دول وقادة ومسئولين عن صنع السياسة الخارجية فى دول عديدة. جديد وطارئ للغاية الإهمال المتعمد من جانب القطب الأمريكى لكل رموز ومؤسسات النظام الدولى الراهن مثل منظمته الأم وأقصد الأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة وأجهزة العدالة الدولية وفى الوقت نفسه لكافة رموز ومؤسسات التنظيم الإقليمى مثل الاتحاد الأوروبى والاتحاد الإفريقى وجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامى ومنظمة الدول الأمريكية. بكلمات أخرى، نعيش فى نظام دولى يفتقر إلى قيادة تحظى بشرعية الموافقة أو التوافق أو الهيمنة برائحة العدل أو الكفاءة.
• • •
أتساءل، وقد نما إلى علمى الكثير عن غضب غير مألوف من جانب مسئولين وقادة عرب نتيجة كل ما صدر مؤخرا عن القطب الأمريكى، وبخاصة عن رئيسه وكبار مبعوثيه إلى أوكرانيا والشرق الأوسط، وفى هذا الأخير مبعوثته سيئة الذكر إلى الحكومة اللبنانية وشعب لبنان والمقاول ومعها المقاول والممول الصهيونى الكبير وسيطا فى مفاوضات وقف إطلاق النار فى غزة ومن قبلهما الضابط السابق فى الجيش الإسرائيلى المكلف برسم خريطة مصادر الغاز فى شرق البحر المتوسط والمبعوث لمتابعة المفاوضات بين إسرائيل وحزب الله فى مرحلة لاحقة، أتساءل إن كان فى مكنة المسئولين والمفاوضين العرب، وكممثلين لدول جامعة الدول العربية، نقل المواجهة بين أمريكا من جهة، باعتبارها القطب الرئيس فى النظام الدولى الراهن، ومن جهة أخرى، القمة العربية المزمع انعقادها الخميس بعد القادم، باعتبارها الممثل الشرعى والوحيد للنظام الإقليمى العربى، إلى مستوى مواجهة أعظم وأبقى أثرا إذا وضعت هذه القمة العربية فى حسبانها عند المناقشة وعند صياغة قراراتها أنها فى هذه اللحظة الحاسمة فى صنع مصير العالم اختارت أن تمثل إلى جانب النظام الإقليمى العربى أغلب رموز ومؤسسات النظام الدولى والنظم الإقليمية، وكلها كما نعلم غاضبة غضبا شديدا على أمريكا الخاضعة حاليا لقيادة الرئيس ترامب والمقاولين من عائلته وزملائه فى المهنة والمفتقرة إلى قيادات سياسية رشيدة وواعية.