محكمة الجنايات البيئية

محكمة الجنايات البيئية

محكمة الجنايات البيئية

 العرب اليوم -

محكمة الجنايات البيئية

بقلم - نجيب صعب

إذا كان البعض يعد المطالبة بإنشاء «محكمة جنائية للبيئة» مبالغة، فلا بد من مراجعة الحسابات بناءً على الوقائع، التي تُثبت أن الجرائم البيئية تتوسع بسرعة أكبر من الجرائم الأخرى، وتدر أرباحاً تصل إلى 300 مليار دولار سنوياً.
ما يعرفه الناس عن عمل منظمة الشرطة الجنائية الدولية (الإنتربول) هو أنها تنسق التعاون بين الدول لتطبيق القانون، مما يمنع الإفلات من العقاب، ويجعل العالم أكثر أماناً. عدا عن ملاحقة الهاربين إلى دول أخرى من المتهمين بجرائم فردية، يركز «الإنتربول» اهتمامه على شبكات الإجرام الكبرى العابرة للحدود، خصوصاً في مجالات الإرهاب وتهريب المخدرات وتبييض الأموال وتزوير العملات والاحتيال ومكافحة الجريمة المنظمة عبر الإنترنت.
الجرائم البيئية هي الإضافة الأخيرة الكبرى إلى مهمات «الإنتربول»، ليس فقط لأنها تعرض الموارد الطبيعية والتنوع البيولوجي والصحة العامة للخطر، بل لأنها تتعدى هذا إلى تهديد الأمن الدولي. وهي ترتبط بأنواع أخرى من الجرائم التقليدية، عن طريق تمويل النشاطات الإرهابية والإجرامية والفساد. وتزدهر في مناطق النزاعات المسلحة، حيث سلطة الدولة المركزية ضعيفة. وقد تحولت بعض مناطق الحروب إلى مكبات مفتوحة للنفايات النووية والكيميائية الخطرة، كما حصل في بلدان عربية غير مستقرة.
الجرائم البيئية هي النشاطات غير المشروعة التي تمس بالبيئة، وتعود بالنفع على أفراد أو مجموعات. وهي تشمل التجارة بالأنواع البرية المحمية من نبات وحيوان، والاستغلال المفرط للغابات، والصيد غير المشروع في البحار والمحيطات، والمتاجرة بالنفايات السامة والمواد الخطرة، واستنزاف الموارد الطبيعية بما يفوق قدرتها على التجدد، وتلويث الهواء والتراب والمياه. ومع أن الجرائم البيئية منتشرة في جميع أنحاء العالم، إلا أن بلداناً قليلة أدخلتها بوضوح في التشريعات الوطنية، وحددت عقوبات رادعة لها، مما يسهل الإفلات من المحاسبة.
حقق الاتحاد الأوروبي تقدماً كبيراً خلال العقدين الأخيرين في إدخال كثير من المخالفات البيئية ضمن الجرائم الجنائية التي يعاقب عليها القانون. وترافق هذا مع تعزيز التعاون بين الجمارك في مراقبة حركة الشحن مع البلدان خارج الاتحاد الأوروبي وداخل دول الاتحاد، مع عدم حصر الاهتمام بالممنوعات التقليدية مثل المخدرات.
وقد يكون التقرير البيئي الذي صدر أخيراً عن «يوروبول»، الوكالة الأوروبية الإقليمية الموازية لمنظمة «الإنتربول» العالمية، دليلاً على تعاظم اهتمام دول الاتحاد الأوروبي بالجرائم البيئية. فالتقرير، الذي يحمل عنوان «الجريمة البيئية في عصر التغير المناخي»، يعرض لأخطار الجرائم البيئية على أوروبا، وأثرها المباشر على الأوضاع البيئية، كما على الالتزامات المناخية البعيدة المدى. وقد وجد أن النشاطات البيئية غير المشروعة أصبحت تستقطب استثمارات متزايدة من شبكات إجرامية تقليدية، تسعى إلى تدوير أموالها الوسخة في مجالات يصعب كشفها، تحت غطاء نشاطات صناعية وتجارية شرعية. ومن هذا القبيل أن تتولى نقل النفايات الخطرة والسامة شركات تعمل تحت عنوان «إدارة النفايات»، فتدفنها في بلدان تفتقر إلى قوانين تمنع هذه الممارسات ويحكمها الفساد. ومنه أن تعمد شركات للصيد البحري إلى استخدام أساطيلها لاستنزاف الثروة السمكية بما يفوق أضعاف الكميات المسموح بها. ومنه أيضاً إقدام شركات الأخشاب على قطع عشوائي لأنواع محمية، مما يتسبب بتدمير الغابات. وتحرك حركة التجارة الإجرامية هذه شركات نقل بضائع دولية تحمل تراخيص قانونية. ويُذكر أن تجاراً لبنانيين، بتغطية من مسؤولين حكوميين، حاولوا عام 2016 تصدير أطنان من النفايات إلى وجهات غير معلومة، عبر شركات أوروبية تبين أنها وهمية.
ومع ازدياد حجم الجرائم البيئية أضعافاً، يبقى من الصعب في كثير من الأحيان ربطها بالجريمة المنظمة. وهذا يعود أساساً إلى التفاوت في الأنظمة القضائية بين الدول، وضعف خطر الانكشاف مقارنة بالجرائم التقليدية، وتدني العقوبات المفروضة عليها، رغم أرباحها الفاحشة. هذا كله يجعلها مغرية للشبكات الإجرامية. لكن الأخطار المحدقة للتغير المناخي وضعت الجرائم البيئية أخيراً في سلم الأولويات، لأنها قد تتسبب بتدهور مناخي وبيئي يفوق النتائج المرجوة من تدابير خفض انبعاثات الكربون للحد من الاحتباس الحراري. ومن هنا تعاظم الاهتمام بالمسألة، كما يُظهر تقرير «اليوروبول».
أهم استنتاج توصل إليه التقرير الأوروبي أن معظم الجرائم البيئية تقوم تحت غطاء مشاريع شرعية، منها تشغيل منشآت مرخصة لإنتاج وتخزين مواد ممنوعة لا يشملها الترخيص. أما الشركات المرخصة بتصدير النفايات البلاستيكية من أوروبا، فتتواطأ مع الشركات في الدول الأخرى لتخفيض التكاليف ومضاعفة الأرباح، عن طريق عدم الالتزام بالشروط. فقد تبين أن ثلث كمية نفايات البلاستيك المصدرة إلى دول آسيوية للمعالجة وإعادة التدوير تنتهي في المكبات العشوائية والبحار. وعدا عن تصدير البلاستيك المستعمل إلى آسيا، تنقل شركات «إدارة» النفايات فضلات خطرة من غرب أوروبا إلى شرقها بهدف المعالجة، وفي أحيان كثيرة تخلطها بنفايات محظورة لمراكمة الأرباح. ومن النفايات المنقولة تحت غطاء التبادل التجاري السفن القديمة، التي تعمد بعض الشركات إلى إغراقها في المياه الدولية بعد تقاضي ثمن معالجتها وتدوير فضلاتها. ويشمل هذا «التبادل» النفايات الإلكترونية، التي يتسبب تفكيكها وتذويبها، لاستخراج المواد الثمينة منها، بتلويث خطر في غياب معايير صارمة.
ومن أحدث المجالات التي تحاول شبكات الإجرام البيئي التسرب إليها تلك التي تقع تحت تصنيفات مثل «الأبنية الخضراء» و«صناديق الاستثمارات المستدامة». فمن خلال هذه العناوين، يحاول هؤلاء استقطاب مستثمرين لِضَخ الأموال في مشاريع ذات عنوان بيئي، مثل الطاقة المتجددة والتطوير العقاري الأخضر، بينما قد تكون في حالات كثيرة نشاطات ملوثة تتستر بالبيئة للحصول على دعم حكومي واستقطاب الجمهور المهتم بالبيئة. وتساعد في تمرير هذه المشاريع الشروط الفضفاضة للحصول على شهادات الأداء البيئي، مثل تصنيف كفاءة الطاقة أو معايير المواد العازلة في البناء، وهي شروط غامضة تتيح التلاعب. ومن أبواب الفساد أيضاً الثغرات التي تسمح بسوء استخدام تجارة الانبعاثات الكربونية.
تحتل الجرائم البيئية اليوم المركز الرابع بين أنواع الجرائم في العالم، وهي تتقاطع مع شبكات الإجرام المنظمة التقليدية وتقدم غطاءً لها. وقد كشف تقرير عن عملية سرية للشرطة أنه خلال اجتماع واحد بحثت عصابة للإجرام المنظم عمليات تتعلق بتهريب المخدرات، وتبييض الأموال، وتهريب حيوانات مهددة بالانقراض، وشحن أخشاب ممنوع قطعها، ونقل نفايات خطرة بأوراق مزورة.
لا يمكن مواجهة شبكات الإجرام البيئي المنظمة إلا عبر شبكات قانونية وأمنية قوية بصلاحيات واضحة.
* الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)
ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»

arabstoday

GMT 20:40 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

عندما يعلو صوت الإبداع تخفت أصوات «الحناجرة»

GMT 06:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 06:20 2024 الأربعاء ,10 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

GMT 06:17 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

تسالي الكلام ومكسّرات الحكي

GMT 06:14 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

كيف ينجح مؤتمر القاهرة السوداني؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

محكمة الجنايات البيئية محكمة الجنايات البيئية



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 07:35 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 العرب اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 07:55 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
 العرب اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 07:54 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامينات ومعادن أساسية ضرورية لشيخوخة أفضل صحياً

GMT 07:15 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامين سي يعزز نتائج العلاج الكيميائي لسرطان البنكرياس

GMT 05:57 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

مشكلة العقلين الإسرائيلي والفلسطيني

GMT 07:39 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

نجاة نهال عنبر وأسرتها من موت محقق

GMT 22:56 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

مقتل 3 جنود لبنانيين في قصف إسرائيلي

GMT 09:48 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

بيب غوارديولا يوافق على عقد جديد مع مانشستر سيتي

GMT 18:37 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

واشنطن تفرض عقوبات على 6 قادة من حركة حماس

GMT 16:42 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

جماعة الحوثي تعلن استهداف سفينة في البحر الأحمر

GMT 08:32 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

حسين فهمي يُعلّق على فوزه بجائزة عمر الشريف

GMT 06:43 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب الطامح إلى دور شبه ديكتاتور!

GMT 11:51 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

تليغرام يطلق تحديثات ضخمة لاستعادة ثقة مستخدميه من جديد

GMT 08:04 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد العوضي يكشف عن بطلة مسلسله بعد انتقاد الجمهور

GMT 06:02 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

نعم... نحتاج لأهل الفكر في هذا العصر
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab