بقلم عادل درويش
في قمة الإليزيه بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والزعيم البريطاني ريشي سوناك، ومشاركة وزراء من الجانبين (الجمعة)، كانت أولويات الوفد البريطاني إيجاد حلول عاجلة للتعامل مع عصابات تهريب البشر، الذين يضعون الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين في القوارب الصغيرة عبر القنال الإنجليزي (بحر المانش).
يوم الأربعاء، المساءلة الأسبوعية لرئيس الوزراء، أسئلة زعيم المعارضة العمالية السير كيير ستامر الستة (ومداخلات نوابه ونواب أحزاب المعارضة الأخرى) تحولت إلى مبارزة كلامية حامية، وتدخلات من رئيس الجلسة للتهدئة؛ محور النزاع مشروع قانون تعده الحكومة بغرض تثبيط عزم المهاجرين اللاشرعيين عن عبور بحر المانش.
وكانت وزيرة الداخلية سويلا بريفرمان، وهي مثل رئيس الوزراء، سوناك، ووزير الخارجية جيمس كليفرلي من أبناء المهاجرين الملونين، قدمت مشروع القانون لمجلس العموم، وأثار اعتراض التيارات الليبرالية التي تسيطر على معظم منابر التعبير العامة.
ولوجود عدد معتبر من الملونين والأقليات العرقية والدينية في مجلس وزراء حكومة المحافظين، صعب على التيارات اليسارية والصحف التي توزع بين ناخبي المعارضة العمالية لعب ورقة العنصرية ضد المحافظين، فأثارت، بديلاً، نقاطاً قانونية وإنسانية لخلق زخم يدفع مجلس اللوردات (الشيوخ) إلى رفض (أو تعديل) مشروع القانون الجديد إذا مرره مجلس العموم. الأغلبية في مجلس اللوردات ضد المحافظين، ودستورياً لا بد من تصديق اللوردات عليه قبل رفعه لتوقيع الملك ليصبح قانوناً، وفي حالة رفضه، لا يملك الشيوخ إلا إعادته إلى مجلس العموم لإعادة صياغته أو فقراته محل الاعتراض. لكن الكلمة النهائية في إصدار القانون لمجلس العموم، وبالطبع ستلجأ المعارضة إلى تسلسل الإجراءات البرلمانية لتعطيل إصدار القانون بصيغته الحالية.
مقدم البرنامج الأسبوعي لكرة القدم الشعبية في «بي بي سي» لعب ورقة أسوأ من العنصرية؛ ففي تغريدة على «تويتر» شبّه مقترحات وزيرة الداخلية في مشروع القانون بـ«تصريحات حكام ألمانيا في الثلاثينات»، أي شبّه حكومة بلاده المنتخبة ديمقراطياً بأسوأ حكومة في تاريخ البشرية الحديث وأكثرها إجراماً؛ النازية الهتلرية.
الجدير بالذكر أن إدارة «بي بي سي» اكتفت في البداية فقط بـ«تأنيب» مقدم البرنامج (وهو شخصية عامة له ملايين المتابعين على «تويتر»)، بينما كانت الوسائل نفسها، وفي مقدمتها الهيئة، وراء حملة أدت إلى عقاب نائب برلمان محافظ (وهو الآن يجلس في مقعد مستقل بعد فصله من الحزب البرلماني) منذ بضعة أسابيع، لأنه في مداخلة بقاعة المجلس انتقد إجراءات إغلاق «كورونا»، وشبه تقييد حريات المواطنين بإجراءات لم يشهدها بلد أوروبي منذ أيام حكم الألمان في الحرب الثانية. لكن القضية تفاعلت؛ وفي مساء الجمعة أوقفته «بي بي سي»، لحين إجراء تحقيق بعد أن رفض الاعتذار على منصة «تويتر» عن تغريدته التي أثارت الجدل. وربما خشيت «بي بي سي» رد فعل أغلبية الشعب القلقة من عصابات تهريب البشر والهجرة غير الشرعية. فـ«الأغلبية الصامتة» من الطبقات الأقل حظاً، التي لا صوت لها في المنابر الصحافية في العاصمة، تتذمر (عن طريق ما يعرف بـ«العيادة» أو مكتب شكاوى واستشارات نائب البرلمان في الدائرة الانتخابية الذي يلتقي المواطنين في عطلة نهاية الأسبوع)، من إنفاق يومي يصل ما قيمته تسعة ملايين دولارات على استضافة ما يعرف بـ«طالبي اللجوء السياسي والإنساني»، بينما الطبقات دون المتوسطة والعاملة تعاني من ارتفاع تكاليف المعيشة، وتتساءل عن الأولويات التي تذهب ضرائبهم للإنفاق عليها. تعبير «طالب اللجوء السياسي والإنساني» غير دقيق، لأن الغالبية العظمى من مهاجري القوارب هم شباب في عمر التجنيد للجيش من الذكور وأقلية بسيطة من الأسر أو نساء وأطفال. لكن القوانين البريطانية، والمعاهدات الدولية التي تلتزم الحكومة هنا بها، هي النظر في طلب أي شخص يدعي أنه يطلب لجوءاً سياسياً لبريطانيا، وأكثرهم يمزقون أو يضيعون أوراقهم الثبوتية، ولا يذكرون جنسيتهم الحقيقية، فيصعب التحقق من هويتهم، ويستغرق الأمر سنوات للبت في طلباتهم.
قبل خمس سنوات فقط كان عدد العابرين بالقوارب من الشاطئ الفرنسي حوال خمسمائة شخص، وفي العام الماضي (2022) فاق عدد القادمين بقوارب غير شرعية أكثر من أربعين ألفاً، وهي الأرقام الرسمية. فهؤلاء هم الذين تعرضت قواربهم المزدحمة لمتاعب (ولا يعرف بالضبط عدد الذين لقوا مصرعهم غرقاً) وتنقلهم سفن البحرية الملكية أو خفر السواحل أو قوارب الإنقاذ التطوعية، حسب القوانين البريطانية وقوانين أعالي البحار والملاحة الوطنية والدولية. وحسب إحصائيات مركز متابعة الهجرة، هناك بضعة آلاف لا يعرف عددهم وصلوا إلى الشواطئ المفتوحة، ولم يسجلوا في الأرقام الرسمية، وتقدر أرقامهم بعدد مماثل لمهاجري العام الماضي.
مشروع القانون المثير للجدل ليس فيه مستجد سوى منع من يصل إلى الشواطئ البريطانية بطرق غير مشروعة من تقديم طلب اللجوء، وإدراج اسمه مدى الحياة في قائمة الممنوعين من دخول البلاد؛ لكن إصدار القانون، أثناء البرلمان الحالي الذي تنتهي مدته في 22 شهراً، لا يعني القدرة على تنفيذه. محامو منظمات حقوق الإنسان وجمعيات رعاية اللاجئين أجهضوا سياسة الحكومة (لردع محاولات تهريب البشر بترحيلهم إلى بلدان مثل رواندا حلاً وسطاً لاستكمال إجراءات التحقق في طلباتهم)، بطلب إصدار أحكام وقف رحلات الطيران التي تقل المهاجرين غير الشرعيين. القضاة والمحاكم لا يعيشون في عزلة عن الرأي العام، وعند إصدار الأحكام (و99 في المائة منها سابقاً جاءت ضد الحكومة)، يتأثرون بما ترسب في عقلهم الباطن من التغطية الصحافية. فأغلبها انتقائية في التركيز على نساء أو أطفال (وهم أقل من خمسة في المائة من مهاجري القوارب)، ولا تستجوب هذه الوسائل المهاجرين: لماذا لم يطلبوا اللجوء الآن في بلدان مروا بها كاليونان، وإيطاليا، وفرنسا؟ وتتناول الأمر وكأن كل شخص من الأربعين ألف مهاجر هو ضحية نظام ديكتاتوري قمعي، وبالطبع هذا لا يعكس الحقيقة، لكنها تساهم في صياغة تفكير الدائرة الضيقة من محامين وقضاة وبقية المؤسسة السياسية.
فرصة نجاح حكومة المحافظين في الحد من هجرة غير شرعية، يصفها رجل الشارع العادي بـ«الغزو»، لا تبدو كبيرة في الاستعداد لانتخابات ستكون هذه القضية ورقة أساسية في خوضها.