درس «البقرة المقدسة»

درس «البقرة المقدسة»

درس «البقرة المقدسة»

 العرب اليوم -

درس «البقرة المقدسة»

بقلم: عادل درويش

ما يبدو هنا كمسألة بريطانية، يصلح لكل مكان، خاصة في بلدان قراء «الشرق الأوسط»، لأنه درس نموذجي لإدارة الخدمات العامة الممولة من خزانة الدولة، أي ضرائب المواطنين.
ربما القوى العاملة الوحيدة التي لم يثر إضرابها عن العمل اشمئزاز واعتراض غالبية الرأي العام البريطاني، كانوا العاملين في قطاع خدمة الصحة القومية (وتعرف بالحروف الأولى لثلاث كلمات NHS). إضراب الممرضات، والعاملين في خدمة الإسعاف، وممارسي العلاج الطبيعي وأطقم المستشفيات، وأطباء الاستقبال والطوارئ. السبب أن الـNHS تحولت في «الميثولوجيا» القومية الشعبية في المملكة المتحدة إلى ما يعرفه الصحافيون والساسة بـ«ببقرة مقدسة»، من المحرمات انتقادها أو الاقتراب منها، ومؤسسة اجتماعية سياسية من الثقافة القومية للبلاد، لدرجة أن الاستعراض الكبير في افتتاح أولمبياد لندن 2012 مما ساهمت به بريطانيا عبر التاريخ في إثراء التجربة الإنسانية قومياً وإقليمياً وعالمياً، اشتمل على الرقص والحركات البهلوانية بأزياء الأطباء والممرضات على الأسرَّة البيضاء.
وكأي ظاهرة أو مؤسسة تصل في قدسيتها واحترام المجتمع والرأي العام لها، مرتبة الإيمان أو العقيدة، تتضمن نظرة الناس إليها تصورات و«ثوابت»، العديد منها فولكلوري الطابع بتخيلات، ليست فقط لا تمت للواقع بصلة، بل أيضاً لا يكلف الغالبية العظمى من الشعب أنفسهم عناء التحقق منها أو دراستها، لأن ذلك قد يشكك في قدسيتها، وبالتالي يختل توازنهم بما يبقيهم مطمئنين لوجود مؤسسة أو مظلة كبرى تحميهم، خاصة أن الأكثرية من الشعب لا تمارس أي شعائر دينية.
وكأي عقيدة، تشكل الشعارات الآيديولوجية «المقدسة» أساسيات وجودها، ولعل أهم شعارين منذ تأسيس الخدمة في 1948 في عهد الحكومة العمالية (1945 - 1951) بعد الحرب بزعامة كليمنت أتلي (1883 - 1967) هما «الرعاية الصحية للفرد من المهد إلى اللحد» و«الخدمة الصحية مجانية للجميع عند تلقيها بصرف النظر عن مستواهم الاجتماعي والمادي».
عندما تولى «العمال» الحكم بزعامة توني بلير في 1997 كانت ميزانية قطاع الصحة 33 ملياراً و500 مليون جنيه إسترليني، (وكان عدد سكان البلاد 58 مليوناً، أي إنفاق بنسبة 0.57 للمواطنين) لتصل 116 ملياراً وتسعمائة مليون في 2010 عند تسلم المحافظين الحكم (السكان 62 مليوناً و760 ألفاً، أي نسبة 1.8) لتصل 152 ملياراً وستمائة مليون جنيه (قرابة 190 مليار دولار) ميزانية 2022 (عدد السكان 67 مليوناً، أي بنسبة 2.8) وتعهد وزير المالية بزيادة 20 ملياراً و500 مليون جنيه سنوياً مع بداية السنة المالية أبريل (نيسان) هذا العام. لكن «ثوابت» فولكلور الرأي العام تجاه «البقرة المقدسة» أن «العمال» أكثر إنفاقاً على قطاع الصحة من «المحافظين»، وهو ما تدعمه صناعة الرأي العام (ويسيطر عليها مزاج صحافي مناهض للمحافظين)، نادراً ما تذكر الأرقام الحقيقية كتأثير الزيادة السكانية، أو حقائق بشأن ما يشاع بأن «المحافظين يريدون خصخصة الـNHS ومجانيتها مقدسة للجميع».
الواقع أن أكبر إنفاق (خارج إطار مرتبات مليون ومائتي ألف عامل في الخدمة الصحية) منذ إنشاء الخدمة كان بالتعاقد مع مقاولي ومؤسسات القطاع الخاص، مثل طبيب الأسرة أو الممارس العام (54 ألفاً و500 طبيب)، وفي العام الماضي بلغ عدد أدوية الروشتات الطبية (في إنجلترا فقط) ملياراً وأربعة ملايين دواء، فاقت قيمتها ثمانية مليارات و700 مليون جنيه (من جملة 11 ملياراً وثمانية ملايين في المملكة كلها)، تصرف من أكثر من 12 ألف صيدلية (الأجزخانات) في إنجلترا، وكلها قطاع خاص.
فاتورة الأدوية لخدمة الصحة العامة في 2019 (قبل تاريخ الإنفاق على أدوية وأمصال «كوفيد - 19» كانت 21 مليار جنيه). وفي العام نفسه (لأن التاريخ قبل إنفاق «كوفيد» الاستثنائي) فاقت مشتريات الأجهزة الطبية (سبعين مليار جنيه)، كذلك الصيانة، وتشغيل عربات الإسعاف، وبدورها مشتراة من القطاع الخاص (مثل الأثاث والمكاتب)، ويبني مقاولو القطاع الخاص المستشفيات.
مسؤولية النظافة في المستشفيات، وإعداد وجبات طعام المرضى والعاملين، وغسيل وتطهير الفراش والفوط، وتعقيم أدوات الكشف والعمليات الجراحية، التي كانت تتم داخل كل مستشفى، حولتها حكومة «العمال» بزعامة توني بلير (1997 - 2007) إلى القطاع الخاص، التي تعاقدت أيضاً مع شركة أميركية لتجهيز نظام كمبيوتر يربط المراكز الصحية كلها، تكلف أكثر من 15 مليار دولار.
إخفاء هذه المعلومات (عمداً أو تقصيراً من الصحافيين) واتهام المحافظين (زوراً) بعدم توفير الميزانية اللازمة، نموذج لعدم التفكير في حلول عملية، فالأزمة التي تمر بها الخدمة، وأهمها نقص أسرة المستشفيات، فالمتوسط في أوروبا عشرة لكل ألفين مواطن، وحالياً خمسة في بريطانيا، مقابل 15 في ألمانيا و12 في فرنسا. السبب نقص ما يزيد على ثمانية آلاف طبيب و39500 ممرضة في القطاع الصحي بجانب 62 ألف وظيفة أخصائيين مساعدين في الأشعة، والعلاج الطبيعي والمعامل.
المشكلة الأساسية هي الإدارة التي انتقلت من أيدي الأطباء إلى بيروقراطيين، وإهدار للمال على لجان مشتريات، ولجان تقييم ومتابعة، (أجهزة كثلاجة تبريد أو كمبيوتر أو مروحة تتكلف 3 أضعاف ثمنها في المحلات العادية). أما آيديولوجية «مجانية العلاج»، وتهمة الخصخصة فيعرقلان حلولاً عملية تساعد المريض وتوفر الميزانية. وقد اكتشفت ذلك بنفسي أثناء علاجي من السرطان قبل ثلاثة أعوام. علاج الخدمة الصحية المجاني بأشعة الراديوم كان يتطلب أكثر من خمسين جلسة، والأعراض الجانبية تحتاج أدوية أخرى، أما الإشعاعات نفسها فتسبب أضراراً لأعضاء أخرى في الجسم تتطلب علاجاً إضافياً، بعضه يستمر مدى الحياة، وهو ما يكلف الخدمة القومية فوق 350 ألف جنيه للمريض الواحد.
لكن علاجي في القطاع الخاص بأشعة البروتون بالغة الدقة، تطلب ست عشرة جلسة فقط، كلفت 85 ألف جنيه (ربع تكلفة العلاج في الخدمة القومية) ولدقتها، لم تتسبب في أي أضرار ببقية أعضاء الجسم.
أشارك تجربتي لأن هناك أجهزة ووسائل علاج للحالات المستعصية استثمر فيها القطاع الخاص، فلماذا لا تحول الـNHS المرضى إلى المراكز الخاصة، والتكلفة ما بين الثلث والربع، مما يسرع بالعلاج، ويوفر الملايين لاستثمارها في نقص العجز في الأطباء والأخصائيين والأجهزة؟
إنها هالة الآيديولوجيا حول «البقرة المقدسة»، التي ترعاها بيروقراطية تفكر بعقلية كهنوت القرون الوسطى.

arabstoday

GMT 13:05 2024 السبت ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حزب الله بخير

GMT 11:57 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مرحلة دفاع «الدويلة اللبنانيّة» عن «دولة حزب الله»

GMT 11:55 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

هل هذا كل ما يملكه حزب الله ؟؟؟!

GMT 20:31 2024 الجمعة ,13 أيلول / سبتمبر

عشر سنوات على الكيان الحوثي - الإيراني في اليمن

GMT 20:13 2024 الخميس ,12 أيلول / سبتمبر

صدمات انتخابية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

درس «البقرة المقدسة» درس «البقرة المقدسة»



الأسود يُهيمن على إطلالات ياسمين صبري في 2024

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 04:11 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف
 العرب اليوم - أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف

GMT 16:16 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

ميمي جمال تكشف سبب منع ابنتها من التمثيل
 العرب اليوم - ميمي جمال تكشف سبب منع ابنتها من التمثيل

GMT 06:20 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

الحكومة والأطباء

GMT 04:11 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف

GMT 07:59 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب

GMT 11:18 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

رسميًا توتنهام يمدد عقد قائده سون هيونج مين حتى عام 2026

GMT 13:28 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

5 قتلى جراء عاصفة ثلجية بالولايات المتحدة

GMT 19:53 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

أوكرانيا تعلن إسقاط معظم الطائرات الروسية في "هجوم الليل"

GMT 10:05 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

شركات الطيران الأجنبية ترفض العودة إلى أجواء إسرائيل

GMT 19:00 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

أوكرانيا تؤكد إطلاق عمليات هجومية جديدة في كورسك الروسية

GMT 10:12 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

انخفاض مبيعات هيونداي موتور السنوية بنسبة 8ر1% في عام 2024

GMT 11:11 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

إقلاع أول طائرة من مطار دمشق بعد سقوط نظام بشار الأسد

GMT 18:52 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

هوكستين يؤكد أن الجيش الإسرائيلي سيخرج بشكل كامل من لبنان

GMT 07:25 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

استئناف الرحلات من مطار دمشق الدولي بعد إعادة تأهيله

GMT 10:04 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

البيت الأبيض يكتسى بالثلوج و5 ولايات أمريكية تعلن الطوارئ

GMT 08:21 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

أحمد الفيشاوي يتعرّض لهجوم جديد بسبب تصريحاته عن الوشوم

GMT 06:39 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

زلزال قوي يضرب التبت في الصين ويتسبب بمصرع 53 شخصًا
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab