بقلم: عادل درويش
موسم أعياد الميلاد، الأكثر ازدحاماً في السفر، وموسم للنيات الطيبة، لكنه يبدو، في بريطانيا نذيراً بلسان شكسبير بـ«شتاء الاضطرابات» في مسرحية ريتشارد الثالث (1452 - 1483) بنهايته المأساوية في معركة بوزورث.
الإضراب، بسحب العاملين دورهم في الإنتاج للضغط على صاحب العمل، حق تكفله القوانين الديمقراطية لتحقيق مطالب عادة اقتصادية أو اجتماعية مهنية.
فهل الإضرابات التي تعصف بالبلاد وتنظمها قيادات نقابية، معظمهم مؤدلج بأفكار اشتراكية وماركسية، بتوقيت يسبب أقصى الأضرار بمصالح المواطنين، واضطرار الحكومة لاستدعاء أفراد القوات المسلحة لتشغيل المرافق الحيوية، كانت مطالب مهنية، أم لدوافع سياسية؟
بدأ موظفو مصلحة الحدود الجمعة إضراباً يستمر ثمانية أيام في ستة مطارات (تستقبل 13 ألف رحلة طيران)، أكبرهم في العاصمة «هيثرو» (81 مليون راكب سنوياً) و«غاتويك» (47 مليون راكب). متطوعون من موظفي الداخلية، وأفراد الجيش، يقومون بمهام ختم وتفتيش أوراق السفر بدل المضربين، مما يبطئ الطوابير في صالات الوصول، ويترتب عليه تأجيل تنزيل الركاب من الطائرات حتى تخلى القاعات، وبدورها إبقاء الطائرات القادمة في الجو لفترة أطول، تحرق وقوداً أكبر (زيادة طيران ساعة يكلف 7800 دولار وقوداً إضافياً لرحلة عبر الأطلسي وقودها ثمنه 33 ألف دولار)، واحتمال فقدان ركاب الترانزيت رحلات أخرى.
المعاناة تتكرر مع مسافري السكة الحديد، وعددهم مليار و800 مليون راكب سنوياً، يواجهون إضرابات سائقي القطارات ومشغلي الإشارات وإدارات المحطات، وينتمون إلى أربع نقابات مختلفة بتكتيكات حروب العصابات: 27 إضراباً انتقائياً يومين أسبوعياً بدأت في الثاني هذا الشهر، وأفسدت خطط مسافري ليلة العيد (أمس).
اضطر الملايين للسفر بالسيارات الخاصة لقضاء العيد مع أسرهم، في عشرين مليون رحلة على الطرق (تقدير جمعية الأتوموبيل)، بجانب زيادة عدد شاحنات القطاع الخاص لنقل طرود بسبب إضراب نقابة عمال الاتصالات، (115 ألف عضو) معطلين مصلحة البريد الملكية أربعة أيام الأسبوعين الماضيين، بجانب اليومين الماضيين في أكثر أوقات السنة ازدحاماً بالطرود والهدايا (متوسط 11 مليوناً و700 ألف يومياً)، وعدد الخطابات يبلغ في المتوسط 84 مليوناً شهرياً، ويتضاعف ببطاقات المعايدة هذا الشهر.
مع ازدحام الطرق، أضرب ألف وخمسمائة من الملاحظين ومهندسي وعمال صيانة الطرق السريعة، قبل يومين مسببين ازدحاماً للمرور. فعملهم لا يقتصر على إصلاح أعطاب أو تشرخات سطح الطريق، بل أيضاً تحويل المسارات ونقل سيارات تتعطل، مع زيادة كبيرة في السيارات الكهربية التي تستنفد بطاريتها وعرقلت الطريق هذا العام.
يوم الخميس كان إضراب أطقم سيارات الإسعاف، والطاقم (عادة اثنان) ليس مجرد سائق ومساعد من الجنسين، وإنما خبراء الإسعافات الأولية والأجهزة الطبية لإبقاء المريض على قيد الحياة، كالأكسجين، وإعادة ضربات القلب؛ أي غرفة طوارئ مستشفى متنقل، بجانب الاستجابة السريعة الفردية من رجل الإسعاف على الموتوسيكل لإنقاذ حياة المصاب قبل وصول الإسعاف؛ بجانب خدمات أخرى كنقل العجزة والمسنين بشكل يومي من بيوتهم إلى المستشفيات ومراكز العلاج والعكس.
قبلها بيومين كان إضراب اتحادات التمريض، مما شكل أعباء إضافية على جهاز الصحة العام القومي الذي يعاني من تناقص في الخدمة وأزمات بسبب وباء «كوفيد»، ونقص عدد الأطباء والمتخصصين، وزيادة كبيرة في الكثافة السكانية بسبب الهجرة المتزايدة في كثير من المناطق. ويجهز اتحاد التمريض يومين إضرابات الشهر المقبل.
حزب العمال والتيارات اليسارية (كقيادات نقابات عمل النقل والسكة الحديد والممرضات ذوي الميول الاشتراكية) يتهمون حكومة المحافظين برفضها تناول زيادة الأجور أثناء تفاوضهم مع وزير الصحة، وبالتالي يحملونها المسؤولية. لكن المسألة أكثر تعقيداً من ذلك.
النقابات عادة تدعو إلى إضرابات، كأداة ضغط على أصحاب العمل (التسمية القانونية حتى لو كانت المؤسسة ممولة من الضرائب العامة) لمطالب متعددة كظروف العمل، والخدمات، واحتياطات السلامة، وأهمها زيادة الأجور، وعادة ما يطالب ممثلو النقابة بحد أعلى قبل التفاوض ليقبلوا بأقل، هذا العام يطالبون بما لا تتحمله ميزانية البلد السنوية.
الحكومة تترك تحديد زيادة الأجور لآليات مستقلة (body pay review) تسمى لجان تقدير الأجور، لتقييم العلاوات وتتعامل في حوالي 122 مليار دولار سنوياً، تساوي أجور مليونين ونصف المليون يمثلون حوالي 45 في المائة من العاملين في القطاع العام. اللجان تقترح مستوى العلاوات وتعرضها على إدارات العمل والنقابات. الأرقام تقترحها كل لجنة وفق حسابات وتوصيات، وتقارير الخزانة، وتقدير بنك إنجلترا (البنك المركزي) لمعدلات التضخم، كأجور توازن بين الحاجة لتلبية غلاء المعيشة وعدم رفع معدلات التضخم.
بدا تأسيس هذه الآليات في 1963، ويصل عددها إلى ثماني آليات تحت إشراف مكتب اقتصاديات القوى العاملة (Office of Manpower Economics) الممول من ميزانية وزارة الأعمال والطاقة والصناعة. اللجان تشمل: الصحة العامة (اقترحت علاوة أربعة في المائة حوالي 1690 دولاراً، والنقابة تطالب بـ19 في المائة)؛ لجنة القوات المسلحة؛ لجنة مرتبات كبار موظفي الدولة؛ لجنة علاوات البوليس؛ لجنة أجور أطباء الأسنان والممارسين العمومين أو أطباء العائلة؛ لجنة العاملين بمصلحة السجون التابعة لوزارة العدل؛ لجنة أجور المعلمين في المدارس العامة؛ ولجنة الوكالة القومية لمكافحة الجريمة.
الحكومة تستطيع، نظرياً، تجاوز مقترحات لجان الأجور، في حالة الممرضات مثلاً لكنها ستكون مجازفة غير حكيمة، فبجانب مساهمتها في زيادة معدلات التضخم، فإنه لا توجد ميزانية في الخزانة لاستثناءات بقية النقابات، خصوصاً أنها إضرابات سياسية لا مهنية اقتصادية خالصة. بعض قيادات حزب العمال، (وأحدهم كان نائباً لزعيمه) تدعو إلى الإضراب العام، كما حدث في 1926 عندما أضرب مليون ونصف المليون، وشلت الحركة في البلاد وسببت أزمة اقتصادية.
الأفضل لحكومة ريشي سوناك عدم الرضوخ لابتزاز الإضرابات السياسية التي تستهدف إسقاط حكومة المحافظين، وإجراء انتخابات تأتي بحكومة عمالية أو برلمان معلق ينتهي بحكومة ائتلافية موالية للاتحاد الأوروبي، وتأتي بمزيد من قيود الاشتراكية على الاقتصاد. تأثير الإضراب في هذا التوقيت على مشاعر المواطنين غالباً سنعرف أثره من استطلاعات الرأي بعد إجازات أعياد الميلاد. نقابة أطقم الإسعاف ألغت إضراب الأسبوع المقبل خشية فقدان تعاطف الناس، فباستثناء الممرضات غالباً سيتناقص تعاطف الرأي العام مع من تسببوا في تعطيلهم مصالح الناس، وعلى الحكومة أن تعي ذلك.