بقلم : محمد أمين
ودعت مصر ابنًا من أبنائها الأوفياء لها.. هو الكاتب الكبير صلاح منتصر.. وذهب المشاركون في العزاء عن رغبة في وداع قيمة صحفية كبيرة، وليس لكى يحضروا مناسبة اجتماعية يلتقون فيها بالأصدقاء ويتبادلون فيها أرقام الهواتف.. وكتب من كتب من زملاء المهنة عن حب وجدارة وليس من باب «برو العتب».. فقد كان الراحل الكبير يرتبط بعلاقات طيبة مع الجميع، زملاء ومسؤولين.. وكان يكتب لا ينتظر شيئًا، وكانت روحه جميلة وابتسامته تملأ وجهه حين يلقى زملاءه وتلاميذه على السواء!.
وكان الحزن باديًا على الوجوه وكاشفًا عن علاقته بكل أبناء المهنة.. رحل الكاتب الكبير بعد إسهامات عديدة ومسيرة حافلة في خدمة صاحبة الجلالة، واشتهر بالانضباط والالتزام ودقة المعلومات.. وكان من نوع الجورنالجية الذين يفتخرون بعملهم، وكان يسجل كل شىء في نوتة صغيرة يُخرجها من جيبه، فيلتقط فكرة أو جملة ويسجل الأرقام في لقاءات الوزراء وكبار المسؤولين، بينما شباب الصحفيين يعتمدون على الذاكرة!.
كانت «النوتة» لا تفارقه في أي لقاء، ومن باب أولى، حين يشرع في كتابة مقاله.. وهو من النوع الذي يعتمد على الكتابة بقلمه، وليس على الموبايل أو اللابتوب.. وقد ظل يكتب عموده الأشهر «مجرد رأى» عدة عقود.. يطرح الأفكار والمبادرات ويفجر النقاش العام حين لا يكون هناك ما يشغل الرأى العام.. فكان يطرح الأفكار ويحرك المياه الراكدة بالمبادرات!.
وكان حكاء للتاريخ، وهو من نوع الحكائين العظماء، ويكتب الحلقات التاريخية في عموده اليومى أو يومياته، وكان مهمومًا بقضية الوعى والاقتصاد الوطنى، وصحة المواطنين، فتبنى معركة صحفية ضد التدخين وأقلع الكثيرون مؤمنين بما يكتبه!.
عرفته لا يزاحم أحدًا في منصب، ولا يسعى لإعلان الحرب على أحد.. كان زاهدًا ومتسامحًا ومحبًا وحكيمًا يحتكم إليه الزملاء في القضايا المختلفة، وكان يقدر الكتابات الجيدة ويتواصل مع أصحابها، ويفعل ذلك بحب.. لقد كان من جيل الكبار قامة وقيمة، يتحدث عن ذكرياته بكل تواضع، وكان مشغولًا بما يقدمه لتلامذته وأبنائه وليس بما يأخذه منهم.. وكان «دفتره» علامة على تميزه وانضباطه ودقة معلوماته!.
أما سبب زهده فلأنه شغل كل المناصب القيادية في مؤسسات مختلفة، أهمها الأهرام، وساعده هدوؤه على أن يكون رئيسًا للتحرير ورئيسًا لمجلس الإدارة، وكان عضوًا بمجلس الشورى.. فلم يعد هناك ما يسعى إليه من مناصب حين جرى البعض للحصول على المناصب.. وتفرغ ليكتب مقاله اليومى، فكان قبلة لكل قراء «الأهرام»، وكان هو والأستاذ سلامة أحمد سلامة رأسى الحربة في كتيبة كتاب الأهرام!.
وأخيرًا، فقدت الأهرام ومصر علمًا من أعلامها، وكاتب عمود من أهم كتابها، وقد التزم كتابة العمود، وهو أسرع نفاذًا إلى القلوب وأصعب الأشكال الصحفية.. رحم الله الأستاذ صلاح منتصر، الذي يذكرنى بالأستاذ عباس الطرابيلى.. فهما من أعلام مدرسة دمياط في الصحافة المصرية والعربية!.