لا حديث يعلو حالياً على حديث «ريفيرا غزة». ولا صوت يعلو الآن على صوت ما يصدر عن الإدارة الأمريكية من خطط أو أفكار أو مشروعات أو دعوات لتفريغ غزة من محتواها البشرى، بغض النظر عن المسميات.
وباستثناء مصر بالطبع، وعدد من الدول العربية، تبدو ردود الفعل لقنابل الصوت الصادرة من واشنطن خافتة ساكنة هادئة. ردود فعل جانب كبير من دول العالم، ومنظماته ومؤسساته وجمعياته وجماعاته، أقل ما يمكن أن توصف به هو «دون المتوسط».
يمكن تفسير ذلك بطرق عدة: الأفكار الصادمة والمفاجئة الصادرة من واشنطن لم تستثن أحداً.
من قناة بنما إلى جرين لاند ومنها إلى كندا، وبالطبع الصين، و«خرزانة» الرسوم الجمركية التى يتم التلويح بها والحرب التجارية التى تلوح فى الأفق والذكاء الاصطناعى، والمواجهة الشعواء على صعيد العالم التكنولوجى والرقمى، وموافقة رئيسة المكسيك على نشر عشرة آلاف جندى مكسيكى على الحدود مع أمريكا.
والاتفاق المبدئى على استقبال السلفادور لأشخاص مدانين فى جرائم من أمريكا فى سجونها فى مقابل رسوم، وما لحق بالوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ووقف المنح الفيدرالية والمساعدات الخارجية وغيرها، تطايرت خطط الإدارة الأمريكية الجديدة فى كل مكان، وهو ربما ما شغل الجميع، فأبطأ أو خفف أو أجل ردود الفعل التى كان يتوقع أن تكون صارمة وحاسمة وقاطعة جراء غزة.
وربما أيضاً أن متابعة غزة وأهلها فقدت جزءاً من وهجها، وهذه سمة الحروب الضروس والأحداث الجسام. ترتفع معدلات المتابعة ودرجات الانفعال واندفاعات التأييد والتعاطف، ثم تخفت بسبب طول أمد الكارثة.
وتتوالى التفسيرات التى تحاول تفسير موقف العالم تجاه ما يدبر لغزة. عموماً، تباطؤ ردود الفعل، أو خفوت حدتها أمور لا تهم كثيراً الآن.
كما لا يهم كثيراً الآن الهبد المحلى المتمثل فى توجيه رسائل شديدة اللهجة فيما بيننا إلى الإدارة الأمريكية.
بالطبع رد الفعل الشعبى بالغ الأهمية، ولكن ما يدبر لغزة، وفى قول آخر ما يدبر لمصر، يحتاج توعية ثقافية وسياسية محلية من نوع مختلف.
لماذا؟ لأن قطاعاً عريضاً منا فى حاجة ماسة إلى معرفة أبعاد المخطط، بعيداً عن العواطف. وهناك من يحتاج إلى معرفة المخطط من الأصل، حيث البعض غارق فى تفاصيل حياته اليومية ويرفع راية «مش متابع والله».
حائط الصد الشعبى على القدر نفسه من أهمية الصد الأمنى، هذا يدعم ذاك، وذاك يستمد قوته من هذا. لذلك، التوعية ونشر الثقافة ذات مكونات التاريخ والجغرافيا والسياسة والاقتصاد أمر بالغ الأهمية، ويكاد يكون أكثر أهمية من السخرية الموجهة إلى أصحاب المخطط الشيطانى، ولكنها تقتصر على التداول فيما بيننا.
وعلى سيرة نشر الثقافة، هذا يعيدنا إلى المطالبة المزمنة بالعمل على نشر الثقافة والوعى بكل شئون الحياة، وليس بالدين فقط. لن أكل أو أمل من التكرار: كفانا زجاً بالدين فى الطب والهندسة والنانو تكنولوجى وبطاقة التموين والذكاء الاصطناعى والبكالوريا وحصة الألعاب وأوتوبيس النقل العام. وكفانا إصراراً على توريط علماء الدين الأجلاء فى الاقتصاد وزيت الطعام والساحل الشمالى والجغرافيا ومريض السكر والبطلة الرياضية والأفلام وغزة واحتلال الأرصفة و«تشات جى بى تى» وأخيراً «ديب سيك».
ثقافتنا فى حاجة ماسة إلى التحرر من عبودية نسخ التدين المغلوطة، ومحاولات استلاب العقل المصرى، وتغول التطرف على حساب الفكر والفن والإبداع، والإصرار على جعل التعرى والعلاقات الجنسية المفتوحة والكفر والزندقة الوجه الآخر للدولة نصف الدينية نصف المدنية.
وأوجه تحية إلى رئيس الهيئة الوطنية للإعلام الصديق الكاتب والإعلامى أحمد المسلمانى، الذى يبذل جهوداً واضحة على طريق إعادة ثقة المصريين فى هويتهم، التى جرى طمس الكثير من ملامحها منذ سبعينات القرن الماضى.
ولا يخفى على أحد أن جهوداً مماثلة تبذل الآن من البعض ليس فقط للإبقاء على المصريين فى خانة التزمت الشكلى واللفظى، والاكتفاء بجانب العبادات دون المعاملات، ولكن لتغييبنا والإمعان فى تخلفنا الثقافى والمعرفى، رغم أن دولاً عدة حولنا تركض ولا تسير لتلحق بما فاتها.
الأستاذ المسلمانى يعرف أن قوة مصر الناعمة هى رمانة ميزانها، وضمان بقاء هويتها واستعادة ما فقدناه منها.
خشونة التعامل، وقسوة الفكر، وغلظة الأولويات، وفظاظة السلوك وغيرها تصلحه الأخلاق، ويعيد هيكلته العلم والتعلم، وتنقيه الموسيقى، وتطهره الرياضة، وتحسن منه الثقافة العامة فى شتى العلوم والآداب.
والخطوات التى تتخذها الصديق العزيز تسير فى هذا الاتجاه، وأتمنى أن تكون البداية للمزيد، وليس فقط لإحياء ما فات، ولكن لصناعة الجديد والحديث.
نحن فى حاجة ماسة إلى إعادة بناء وإعمار الثقافة والروح والهوية المصرية.
نحتفظ بما فات وتوارثناه والصالح للمستقبل، ونبنى عليه ما يؤهلنا لعبور المراحل بالغة الصعوبة المقبلين عليها.
لا «سلفنة» المجتمع الدائرة رحاها بقوة ودون مقاومة أو ممانعة أو حتى وقاية ستنقلنا إلى المستقبل الذى نستحقه، ولا الزج برجال الدين فى شئون الحياة المدنية والمعيشية سيقينا شرور الواقع.