بقلم:أمينة خيري
هل تنتهى كل المشكلات حين يأكل ويشرب الناس؟، تحدثنا فى المقال السابق عن الإحساس المريح والمضلل بأن توجيه الوقت والجهد لتوفير الغذاء وتخفيف آثار الفقر الآنى يغنى عن أو يبرر التغاضى عن الجهل المعرفى والجمود الثقافى وتوغل رجال الدين فى الحياة، لا سيما أن المخدرات التى تذهب الوعى وتقتل التفكير أثبتت أنها من أبرز وأنجع الأدوات السياسية على مر التاريخ.
والغريب فى مصرنا الحبيبة أن تطالب الإدارة السياسية عشرات المرات بإعادة بناء الأدمغة والوعى والثقافة، بل وتمكن وتدعم جهات عدة للقيام بالمهمة، لكن المقاومة العنيفة تأتى من قبلنا. وحتى لا نظلم أنفسنا أكثر مما ينبغى، يمكن القول إنه ربما تكون بعض الجهات الرسمية أو غير الرسمية ضالعة فى تقوية شوكة هذه المقاومة. منها ما يروج بسبل غير مباشرة أن التطوير يعنى الكفر والإلحاد ونبذ الدين، ومنها ما يمعن فى المزيد من نشر الخرافة ونثر القصص الخيالية والمخدرات الفكرية، وجميعها يؤدى فى النهاية إلى نتائج متطابقة: غرس كراهية التطوير، تمجيد العقليات الجامدة الخانعة المستسلمة وشيطنة العقل النقدى والبحث العلمى وحرية الإبداع.
هذه القوى الداعمة للمقاومة الشعبية التى تلعب دورًا محوريًا فى الحيلولة بيننا وبين اللحاق بما فاتنا، وما سبقتنا إليه دول كنا حتى سنوات قليلة مضت مثلها الأعلى فى التنوير والتثقيف والتعليم والتحضر، تحرص كل الحرص على إبقائنا فى هذا السجن المقيت، والذى بتنا ندافع عنه ونعتبره حصن الأمان وبر الاطمئنان.
وهذا يعيدنا مرة أخرى إلى التربية والتعليم، التربية سواء فى البيت أو المدرسة، والتعليم بأجنحته المختلفة، والذى لا بد أن يعود إلى المدرسة إن أردنا النجاة. ترميم التعليم يختلف عن إصلاح عقيدته وتطويرها وتطهيرها. والمعلم حين يتخلى عن دوره التربوى التنويرى المتفتح، ويعيد إنتاج العقليات الجامدة الكارهة للتفكير النقدى تحت أى مسمى، سواء ضيق ذات اليد الذى يدفعه ليكون «معلم السنتر» أو وقوعه هو شخصيًا تحت طائلة الاستعمار الفكرى الجامد المتحجر، يصبح خميرة لمزيد من التأخر والتعثر.
والأهل فى البيت لو كانوا من ضحايا هذا الاستعمار الفكرى الذى عشش فى قلوب وعقول الملايين، فإنهم حتمًا سيبذلون كل ما فى وسعهم لنقل هذا الفكر، باعتباره المكون المثالى للتربية والتنشئة إلى الصغار، وهلم جرا.
هذه الدائرة المغلقة يجب كسرها والخروج منها. وللعلم، فإن «التيجانى» ليس فردًا أو حالة خاصة. «التيجانى» فكرة. يعيش بيننا الآلاف منه، نقدس بعضهم، وندافع عن البعض الآخر دفاعًا أعمى دون أن نستثمر بقرشين تفكير، وبحث فيما أفتوا به وكيف ساهموا فى الإبقاء علينا فى بالوعة فكرية عميقة.
يبدو لى أن المخرج الوحيد يكمن فى الإصرار على توفير وترسيخ مناخ حرية رأى وتعبير وحوار وتفكير، مع تأسيس «خميرة» مثقفة ومتعلمة ومتنورة من قادة الفكر، على أن يقوموا بمهمة «تدريب المدربين». المجتمع القائم على التسلط وكراهية الفكر فيه سم قاتل، وللحديث بقية.