بقلم:أمينة خيري
رحل أحمد عدوية، بعد حياة حافلة بنجاحات شعبية دفعته إلى سماء النجومية، ومقاومات عنيفة من مثقفين وكُتاب وممسكين بتلابيب الأغنية والطرب والفن فى قالب واحد لا ثانى له. رحل عدوية بعد مسيرة متخمة بالمضى قدمًا رغم أنف الانتقاد والسخرية والتهكم والرفض، بل الازدراء والكراهية، ولكن فى المقابل أنصفته قاعدة شعبية عريضة لم تجد فى المثقفين مَن يمثلها أو يتحدث باسمها أو يفهم لغتها أو يعِى أن لها ذوقًا فنيًّا وأذنًا موسيقية وتوجهًا إبداعيًّا يختلف عن القوالب والقواعد الثابتة، التى ظنت «كريمة المجتمع وصفوتها» أنها جامدة لا تتحرك.
أتذكر ما كان يقوله الكبار فى تجمعات الأسرة حول الكلمات الغريبة والصوت غير المعتاد والمعانى العجيبة لمطرب اسمه أحمد عدوية. تحدث «عمو» و«طنط» و«ماما» و«بابا» عن انهيار القيم، وتحطم القواعد، وتخريب الأخلاق وأن ما نعيش فيه (السبعينيات) يعنى أنه على الدنيا السلام.
وحين ظهر عدوية فى عدد من الأفلام، اشتدت اللهجة المهاجمة واحتدمت جبهات الرفض ومقاومة ما يحدث من انهيار وهبوط وخلخلة إلى آخر مفردات الهدم.
أتذكر الفرحة العارمة لدى فريق مقاومة عدوية حين صدرت قرارات من الإذاعة المصرية بمنع عدد من أغنياته، أبرزها «سلامتها أم حسن» و«أم عبده فين؟». وقرأت ما قاله الإذاعى الكبير، رئيس الإذاعة السابق، الأستاذ عبدالرحمن رشاد، فى حوارات صحفية عن رفض عدوية المثول أمام لجنة إجازة الأصوات، وهو الذى حصل على إشادات من عتاولة الطرب، وعلى رأسهم محمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ، ناهيك عن ثناء الأديب العظيم نجيب محفوظ عليه.
وشاء القدَر أن يكون افتتاح إذاعة «شعبى إف إم» قبل عشر سنوات على إيقاع الأغنيتين الممنوعتين. تحول عدوية من طريد البعض من المثقفين، ومثار تهكم البعض من الكُتاب، ورمز تحول الزمان وتبدل القواعد والمعايير والمقاييس من حال إلى حال. وبينما كان عدوية مطاردًا مرفوضًا منبوذًا على ضفة، كانت الضفة الأخرى تحتفى به كما لم تحتفِ بأحد من قبل.
كان هذا فى زمن ما قبل الـ«سوشيال ميديا»، فلا صوت غير صوت الإعلام الرصين وما يقرره المثقفون والأدباء والكُتاب. وكان هذا أيضًا فى زمن ما قبل اتساع القاعدة الشعبية العريضة عددًا وكيفًا، وهو الاتساع الذى مكّنها وقوّاها وشد من أزرها، وأُضيف إلى ذلك بزوغ شمس السوشيال ميديا ليصبح كل صاحب شاشة سيد قراره ومحددًا لذوقه ومقررًا لما يحب وما لا يحب. وتزامن ذلك واستمرار انفصال قطاع عريض من قادة الفكر والأدب والفن والثقافة عن القاعدة الآخذة فى الاتساع من الشعب، والبعيدة كل البعد عن المعايير والقيم السائدة لدى هؤلاء القادة، بالإضافة إلى تجريف التعليم والتربية والتنشئة واستبدال الأخلاق والسلوكيات، بتدين السبعينيات المظهرى والعنيف.
رحل عدوية، بعد أن صبر وثابر وأصبح ملك الأغنية الشعبية وعمها وبطلها ورمزها وصوتها. قصة عدوية هى قصة مجتمع بتحولاته وإخفاقاته ونجاحاته.