بقلم - أمينة خيري
كان يفترض أن يكون المقال الأول فى شهر رمضان المبارك خفيفًا لطيفًا ظريفًا يناسب روح رمضان. الأفكار كانت كثيرة: روحانيات رمضان التى نتمنى ألا تفسدها الميول الاستهلاكية والانتهازية، فرصة رمضان لإعادة النظر فيما ينبغى النظر فيه، أيام رمضان التى تمر سريعًا وتساعدنا على أخذ عهود على أنفسنا، مثلها مثل نهاية عام وبداية آخر، تجديد الخطاب الدينى وتنقيحه وتطهيره فى هذه الأجواء الروحانية التى ربما تقنع من يرفض الاقتناع بأن الدين يسر لا عسر، وأن الدين سماحة وتسامح وقبول لا عبوس وكراهية وفوقية، وغيرها الكثير من القضايا والأفكار والموضوعات المناسبة لرمضان، على الأقل الأيام الأولى منه.
لكن أتى لقاء الرئيسين الأمريكى ترامب والأوكرانى زيلينسكى ليعصف بكل ما سبق. ما جرى أمس الأول فى البيت الأبيض سيُدوّن فى كتب التاريخ ووثائقه باعتباره صفحة جديدة عجيبة غريبة مريبة من صفحات تاريخ الدبلوماسية. هذه الصفحة سيكتب فيها بالبنط العريض أن المناكفات والمشادات التى تحدث فى سوق الخضار أو محل العطارة أو مزرعة الفراخ يمكنها أن تحدث فى لقاءات رئاسية، لا بين دول صغرى، بل بين دول ذات شأن، أو ذات الشأن الأكبر بين دول العالم. وسيكتب التاريخ أن لقاء ترامب وزيلينسكى أنهى مقولة أن اللغة الدبلوماسية لا مجال فيها للعراك العلنى، أو الإهانة على الملأ، أو التراشق بالكلمات، أو التلاكم بالعبارات، أو توجيه الإهانات لا خلف الأبواب المغلقة، بل أمام الكاميرات، وفى مشهد أقرب ما يكون إلى المعد مسبقًا لتضييق الخناق وإحراج زيلينسكى الذى جلس إلى جوار ترامب جلسة غير مسبوقة فى تاريخ الدبلوماسية، بل ربما الحروب أيضًا.
تسلم ترامب ونائبه جاى دى فانس زيلينسكى وكأنهما يشويانه على نار مشتعلة. يمطره هذا باتهامات وتنديدات، وبينما زيلينسكى يحاول أن يستجمع لغته الإنجليزية ليرد، إذا بالآخر يصوب عليه قائمة أكثر حدة من التهديد والوعيد، لدرجة دفعت سفيرة أوكرانيا لدى أمريكا أوكسانا ماراكوفا غير مرة إلى طأطأة رأسها وإغماض عينيها ووضع أصابعها على عينيها، ولسان حالها يقول: أتمنى أن تتوقف عجلة الزمن.
لغة جسد الرئيسين، بين الرئيس ترامب المهاجم والملوح بالسبابة كما يفعل المعلم مع التلميذ، والرئيس زيلينسكى وهو عاقد يديه وعيناه مليئتان بالدموع الجامدة، ويبذل جهدًا رهيبًا ليخفى مشاعر الغضب والصدمة والإهانة التى يتعرض لها على الهواء مباشرة أمام سكان الأرض الثمانية مليارات، ستبقى محل بحث ودراسة من خبراء التنمية البشرية وعلم النفس والطب النفسى والعلوم السياسية.
هذا اللقاء أنهى صفحة من صفحات تاريخ الدبلوماسية، وبدأ صفحة جديدة غير مسبوقة. ترامب قال لزيلينسكى إنه يخاطر بإشعال حرب عالمية ثالثة، لكن الحقيقة أن ما تمت المخاطرة به فى هذا اللقاء التاريخى هو كل ما كنا نعرفه أو نتصوره أو ندرسه عن العلاقات الدولية واللقاءات الرئاسية والقواعد السياسية.
ورغم كل ما سبق، رمضان كريم.