بقلم:أمينة خيري
قبل نحو ٢٠ عاما، عانيت ألما مبرحا فى أسنانى. أعلم أن الغالبية المطلقة منا تخشى فكرة وجع الأسنان لما تعنيه من زيارة حتمية إلى طبيب الأسنان، والاستلقاء على كرسى الكشف، الذى يعنى أن المستلقى، أو بالأحرى فم المستلقى، بات فى قبضة الطبيب وآلاته الحادة وماكيناته الصاخبة. ورغم ذلك، أعتبر خوفى ورعبى من طبيب الأسنان من نوعية مختلفة تحول أحيانا دون سعيى للعلاج.
وقد شاءت الأقدار أن يفاجئنى هذا الألم مساء ليلة رأس السنة، والتى صادفت فى هذا العام يوم خميس. كنت فى العمل وقتها فى مكتب صحيفة «الحياة» اللندنية فى وسط القاهرة، واقترح علىّ صديقى وأخى الكاتب الصحفى الفنى محمود موسى أن أتوجه للدكتور محمود فهو طبيب ممتاز، ويراعى مسألة هلع المريض من فكرة الألم تماما، كما أنه ابن أحد الممثلين المفضلين لدى، وهو الفنان الجميل عزت العلايلى، فاقتنعت، لكن أغلب العيادات مغلق فى هذا اليوم. اتصل به، وفى دقائق أخبرنى أن الدكتور محمود فى عيادته فى المهندسين، وينتظرنى.
توجهت إلى هناك سريعا، وهلعى مقسم بين الألم الذى أعانيه وبين ما أنا مقبلة عليه على يد الدكتور محمود. وصلت العيادة واستقبلنى الدكتور محمود بحفاوة وابتسامة هادئة ومريحة. وقبل أن أشرح له ما أعانى، سردت مخاوفى من الكشف والحقن والحشو، وكيف أننى لا أحتمل ألم علاج الأسنان، ربما أكثر من ألم الأسنان نفسه. وبطريقته التى تختلط فيها خفة الظل مع تقدير مخاوف المريض مع قدرة فائقة على الطمأنة والتهدئة، أقسم لى أننى لن أشعر بألم، ثم ألقى علىّ قنبلة مروعة.
إنه ضرس العقل، ويجب خلعه. وطبعا بدأت فى مناحة الخلع والألم والهلع، ولم أدرك ما حدث إلا بعد دقائق معدودة وقد زال الألم، وانخلع الضرس، وطالبنى الدكتور محمود بالانصراف حتى ألحق بحفل نهاية العام. كانت هذه بداية معرفتى بالدكتور محمود العلايلى، إحدى أروع وألطف وأذكى الشخصيات التى عرفتها فى حياتى. واستمرت صداقتنا، بين وجع أسنان مرة، ولقاء فى فعالية ثقافية أو سياسية مرة، وفى كل مرة، يستقبلنى بحفاوة، ونتبادل حديثا قصيرا جميلا عبارة عن كوكتيل سياسة واجتماع وأحداث، بدون تطرق إلى الأسنان من قريب أو بعيد.
تابعته فى مسيرته التليفزيونية والسياسية، مع زيارات للعيادة حين يلزم الأمر لى أو لوالدتى، رحمها الله، والتى كان يخبرها دائما أنها تذكره بوالدته. ثم وجدته جارا عميقاً خفيف الدم لى فى «المصرى اليوم»، والأهم من الجيرة أن آراءه ومواقفه فيما يختص بالسياسة والخطاب الدينى وفوضى الشارع وأولويات البناء كانت شبه متطابقة معى.
توقفت زيارات الأسنان، واستمرت لقاءات الصدفة وحوارات المودة، لكنه اختفى بضعة أسابيع اختفاءً لم يصاحبه صور المرض وتدوينات متابعة العلاج وغيرها من مظاهر الإشهار الصاخب التى لا تناسبه أو تليق شخصيته. ورحل الدكتور محمود العلايلى رحيلا أوجع قلبى. رحمة الله عليه، خالص العزاء لأسرته ومحبيه وأصدقائه ولى.