بقلم:أمينة خيري
يذكرنى رمضان دائمًا بوجود نسخ مختلفة للتدين. أقول التدين، ولا أقول الدين. تذكرنى أيام الشهر الفضيل على مدار العقود الخمسة الماضية بأن تدين زمان كان يختلف كل الاختلاف عن التدين الطاغى حديثًا.
تدين زمان لم يكن فظًا أو غليظًا أو زاعقًا أو صارخًا. كما لم يكن عبوسًا مكفهرًا، وبالطبع لم يكن متزمتًا متعصبًا. وبالتالى لم يجد تدين زمان داعيًا لأن تستنفر عروقه وترتعد أوصاله ليوصل رسالة ما إلى المتدينين، أو حتى من يعتبرهم أعداء الدين. كانت الرسائل سلسلة سهلة بسيطة، لا تعتمد التضييق منهجًا أو الصراخ مدرسة. وأعتقد أن تلك السكينة ساهمت فى أن يكون الشارع أقل عنفًا وأكثر سماحة وتسامحًا.
المؤكد أنه كان بيننا قبل عقود من مال للغلظة أو جنح للقساوة، لكن هؤلاء كانوا قلة. والأهم من كونهم قلة أن الغالبية لم تكن تخشاهم، كما لم تقع فى قبضة سحر الغلظة. النسخة الجديدة من التدين التى غزت كل ركن من الأركان قائمة على الغلظة. النسخة الجديدة من التدين التى تسربت، ثم توسعت وتوغلت حتى أصبح لها اليد العليا تعتبر الخشونة الطريق إلى قلوب الناس.
هذه النسخة تكره السماحة، وتعتنق الترويع والتخويف. صلى حتى لا تٌحرق فى النار، قل كذا ولا تقل كذا حتى لا يأكلك الدود، كل أكلك كله حتى لا تجرى وراءك اللقيمات التى تركتها يوم القيامة، غطى شعرك حتى لا يتم تعليقك منه يوم الحساب، قص أظافرك لأن الشيطان الرجيم يسكن فيها، لا تتفوه بكلمات نابية حتى لا تأكل العقارب والحيات لسانك وقائمة الترويع لا تنتهى.
ولولا أننى عشت نسخة تدين زمان ونسخة التدين الحديث بنفسى لظننت أنهما دينان مختلفان لا علاقة لأحدهما بالآخر. الغريب أن نسخة التدين السمح اليسير الودود نتج عنها أجواء- بحسب تفسيرى للتدين والأخلاق- أكثر تدينًا وأكثر أخلاقًا، والعكس صحيح. أتمعن كثيرًا لا فى أصوات المؤذنين فقط، ولكن فى نبرة أصواتهم، وما تكشفه عن تركيبتهم الشخصية.
لست خبيرة أصوات، ولكن الصوت الذى يجعلك تفزع أو تٌستَنفر أو حتى تشعر بعدم الارتياح يختلف عن الصوت الذى يجعل السكينة والهدوء والراحة تسرى إليك. خبراء الأصوات يقولون إن النبرة هى العنصر الأكثر وضوحًا فى الصوت التى تعكس المشاعر وتكشف جوانب من الشخصية. المسألة ليست فى حلاوة الصوت، لكنها فى الرسالة التى يبثها المؤذن عبر صوته.
هل هى رسالة طمأنينة، كتلك التى كانت سمة تدين زمان؟، أم أنها رسالة تخويف وترويع؟، هل يمكن الربط بين تصاعد غلظة التعامل وفظاظة الكثيرين وبين نسخة غليظة من التدين؟، الشخص الذى نشأ على التدين باعتباره رسائل ترويع، هل يمكن أن يكون شخصًا لطيفًا هادئًا سمحًا فى تعاملاته؟، أم أن ما نشأ عليه سيجعله حتمًا فظًا جافًا خشنًا؟ ولحديث نسخ التدين بقية.