ربما تكون منصات الـ«سوشيال ميديا» ملجأً لفش الغل، أى وسيلة تنفيس عن شحنات غضب أو قلق أو كليهما. وقد تكون أيضاً أداة تمكين لمن لا أدوات أخرى له، فيجدها أداة تمنحه نعمة التعبير، بغضّ النظر عن المحتوى أو الغاية. وتظل منصات التواصل الاجتماعى منظومة يمضى عليها الملايين ملايين الساعات بين ترفيه وبحث ومعرفة، مرة أخرى بغضّ النظر عن نوع المعارف، حتى لو كانت «فنكوشاً» مطلقاً لا ريب فيه. فهذه قصة أخرى تتعلق بالوعى الرقمى، وقيمة الوقت، وأشياء أخرى ليس مجالها اليوم.
اليوم ننظر إلى هذه الهبدات الرهيبة التى شهدتها هذه المنصات على مدار أسبوع كامل. والحقيقة أنه على الرغم من أن هبدات الـ«سوشيال ميديا»، التى تشبه «بمب العيد» الذى ينفجر فى وجهك ما إن تستهل يومك بالنظر إلى ما كتبه أو صوّره أو غرّد به أصدقاء وأصدقاء الأصدقاء، رغم أنها صارت اعتيادية، إلا أنها أحياناً تحمل فى مكوناتها ما يعطيها أضعاف «بمب العيد» من قدرة على إثارة الفزع بالفرقعة الفجائية، على الرغم من بدائية المكونات.
مكونات الهبدات على مدار الأيام القليلة الماضية مثيرة وعجيبة وغريبة. هذا الكم المذهل من «المعرفة» و«التحليل» و«الشرح» و«النقد» و«التقطيع» والتشريح» فى الفن والكرة والسياسة والمال والأعمال والاقتصاد يستحق الدراسة. بالطبع من حق الجميع أن يدلو بدلوه، لكن حين يأتى الدلو بهذا الكم المذهل وبالغ التناقض والمفرط فى حمل السموم، فإنه يتحول من حرية تعبير إلى حرية هبد.
وفى الهبد ما يستحق النظر. فالهبد -سواء كان بغرض رفع أحدهم سابع سماء أو الخسف به سابع أرض- يعنى أن عنصر المبالغة متوفر ويفيض. وأبرز مثالين على ذلك لاعبنا الدولى محمد صلاح ومطربتنا العظيمة نجاة، اللذان نالهما من الهبد السلبى والإيجابى كم وفير غير مسبوق.
مرة أخرى، من حق الجميع الإعجاب بلاعب أو انتقاده. ومن حق الكل الثناء على موقف فنانة أو لومها. ولكن حين تتم صناعة إله من العجوة لشخص نُجِله ونبجله ونضعه فى مكانة «ممنوع اللمس» اليوم، ثم نرفع عليه مطاوى الألسنة المسنونة ونكيل له الاتهامات المريعة غداً، فهذا أمر عجيب غريب مريب، إن دل على شىء، فيدل على خلل عاطفى أو اعتلال عصبى.
العصبية الزائدة وتغير المزاج الحاد والإفراط فى حب أو كراهية الشخصيات العامة أمور جديرة بأن يفكر صاحبها فى كيفية علاجها. اليوم محمد صلاح أعظم من أنجبت مصر، غداً محمد صلاح هو سبب خيبتنا وإخفاقنا وهزيمتنا. اليوم الفنانة نجاة من أعظم الأصوات المصرية وأكثرها احتراماً لنفسها وجمهورها، غداً الفنانة نجاة عادية وليست فذة ولم تحترم جمهورها ومكانتها، وهلم جرا.
هذه التقلبات الحادة ليست حكراً على «ترندات» و«هبدات» و«هبات» مثل محمد صلاح ونجاة، ولكنها سمة. وما زلت أتذكر كابتن حسن شحاتة وقت كان مدرباً للمنتخب المصرى. فاز المنتخب بالبطولة، فطالب البعض بأن يترشح لرئاسة مصر. خسر المنتخب، فصاح البعض وصرخ بضرورة إقالته ومحاكمته، وربما كان هناك من تمنى نفيه إلى جزيرة مالطة أو سرنديب!
الغضب شعور إنسانى، وكذلك الفرح. لكن الإفراط فى كليهما بهذا الشكل الهستيرى يستحق منا وقفة، لا لشىء إلا لصحتنا وصحة الآخرين النفسية. وأضيف أن لاعب الكرة الرائع لن يكون رئيس جمهورية عظيماً بالضرورة، والفنان الجميل الموهوب ليس قديساً أو «غاندى» آخر. خلط المشاعر الشخصية، بالوطنية، بالغضب من الوضع الاقتصادى، بالعاطفة، بسعر الدولار، بالفتاوى، يعكس حاجة ماسة لنغمض أعيينا، ونعد من واحد لعشرة، ونأخذ نفساً عميقاً قبل أن نشن «هبدة» جديدة.
فى هذا الوقت، وعلى أرض الواقع، أخبرنى سائق التاكسى أن ما يجرى فى الإقليم من حولنا، ووضعية الكماشة التى نجد فيها أنفسنا، بين ما يجرى على حدودنا مع غزة، وكذلك مع السودان وليبيا، وأيضاً استهداف الحوثيين للسفن، وضربات أمريكا هنا وهناك، وصواريخ حزب الله، وحرب غزة، وما يجرى فى الجولان، وغيرها، لا علاقة لها بمصر.
أكد لى سائق التاكسى أن هذه نقرة وتلك أخرى. والحقيقة أننى على غير عادتى لم أبذل جهداً ضارياً كى أشرح «وجهة نظر» مغايرة، وأن ما يجرى حول أية دولة يؤثر عليها شاءت أو أبت، إلخ، لسببين.
الأول أن مثل هذا الحديث فيه شبهة واضحة، ألا وهى محاولة إلقاء لوم الأوضاع الاقتصادية الصعبة على الحروب والصراعات التى تبدو بالعين المجردة وكأنها لا تحدث فى شارعنا، وبالتالى لا علاقة لنا بها.
والثانى أن الوعى الرقمى الذى أشرت إليه أعلاه لا يختلف كثيراً عن الوعى المعرفى، كلاهما عملية مستمرة تراكمية، لا تحدث بين هبدة رقمية وأخرى، ولا تتحقق بحديث عابر فى تاكسى.
أخيراً وليس آخراً، أهنئ مصر والمصريين بعيد الشرطة وذكرى ثورة يناير، أو بذكرى ثورة يناير وعيد الشرطة، وذلك لإرضاء الجميع.