الطبيعة البشرية تميل إلى إجراء مراجعات دورية لما يشغل البال ويهيمن على التفكير. عقولنا -على الأقل عقول أغلبنا- تلجأ إلى إعادة ترتيب الأولويات بحسب الأهمية، وكذلك بحسب القدرة الاستيعابية لنا.
أقرب مثال على ذلك هو الانجراف الجماعى الذى وضع غزة على قائمة أولويات القلق والغضب والاهتمام والمتابعة، وذلك فى أعقاب عملية حماس يوم 7 أكتوبر الماضى، وما تبعتها من حرب ضروس تشنها إسرائيل، وهى الحرب التى فتحت أو أعادت فتح كل الجبهات التقليدية والجديدة المنضمة حديثاً لساحة الحرب التى تهدد بأن تتحول إقليمية بين دقيقة وأخرى.
أغلبنا تسمّر أمام الشاشات، ومنا مَن اتخذ قرار مقاطعة هنا، أو مساعدة هناك، لكن الطبيعة البشرية تخبرنا أيضاً بأن الفظائع والأهوال مهما بلغت من فداحة لا يمكنها أن تحتفظ بأثرها على البشر إلى الأبد، بمن فى ذلك ضحايا هذه الفظائع أنفسهم. تبدو الفكرة قاسية أو غير إنسانية، لكنها حقيقية.
الحقيقة هى أن الوضع الإقليمى مشتعل وملتهب ومحتقن جداً. والحقيقة أيضاً أن كثيرين بيننا لا يتوقفون عن التفكير ومحاولة المساعدة وتمنى السلامة لأهل غزة. والحقيقة كذلك أن أحوالنا ومعيشتنا ومشكلاتنا لا بد أن تعود وتفرض نفسها، ولو بعد حين.
وأشير فى هذا السياق إلى ملامح ومعالم القلق والاضطراب والتشوش واضحة وضوح الشمس فى تصرفاتنا اليومية، سواء الحقيقية أو تلك الافتراضية على أثير منصات السوشيال ميديا، وأحدث مثال على ذلك ردود الفعل على أداء منتخبنا الوطنى فى كأس الأمم الأفريقية.
طبيعى جداً أن يتمنى الجميع -بمن فيهم غير المهتمين بكرة القدم- فوز منتخبه الوطنى، لكن ما جرى هو أن البعض أمعن فى المجاهرة بعدم تشجيع الفريق، بل وذهب آخرون إلى درجة إشهار تمنى خسارته.
أتفهم أن تغضب أو تعترض أو تنتقد أو تحزن على تصرفات أو ممارسات، لكن أن تتمنى خسارة وطنك، وليس حكومتك أو حزبك، فهذا مقلق، ومع كامل الاحترام، فإن النظريات المبررة، بدءاً بمنهج «فش الغل» مروراً بالتنفيس عن الغضب وانتهاء بالميول الانتقامية من النفس، وغيرها لا تقنعنى. أرى فى الغضب المتحول إلحاق الضرر بالنفس أشبه بالطالب الغاضب من المدرس، فيقرر أن يحرق المدرسة.
وأعود إلى مسألة السعة الاستيعابية لقوائم أفكارنا ومواطن قلقنا وترتيب أولوياتنا، والتى عاد جميعها ليصب فى الوضع الاقتصادى، حيث لا صوت يعلو على صوت ما فى الجيب وما سيأتى به الغيب الاقتصادى.
من الأمثال الشعبية المميتة التى تربينا عليها: «اصرف ما فى الجيب يأتيك ما فى الغيب». ومن الأمثال الشعبية العظيمة: «على قد لحافك مد رجليك». وأعترف بأننى فى طفولتى ومراهقتى كنت أغضب وأشعر بقهر مادى شديد كلما طلبت من والدى شراء ملابس أو ما شابه سعرها غير مناسب لوضعنا المادى أو تعد رفاهية لن نموت بدونها، فيباغتنى بمثل «اللحاف»!
وأرى أن مصر حالياً فى حاجة ماسة إلى تطبيق مبدأ اللحاف، ولكن بأسلوب علمى اقتصادى يحدده خبراء الاقتصاد الحقيقيون والوطنيون فى آن، المصرى سعته الاستيعابية للمصاعب والضوائق كبيرة جداً، ولكن يظل لكل سعة حد أقصى.
هذه السعة قابلة للزيادة حال عرف المواطن «رأسه من رجليه»، بمعنى آخر، لو علم المواطن العادى أن خطوات بعينها أو إجراءات واضحة أو سياسات مدروسة جارٍ أو سيجرى اتخاذها، وأنها ستؤدى إلى تغيرات متوقعة بناء على علم ورصد بتوقيتات زمنية واضحة، فإنه سعته الاستيعابية ستزيد، لكن يظل لها سقف.
وقد عوّدنا الرئيس السيسى على المصارحة والمكاشفة. وأتوقع أن تشهد الأيام القليلة المقبلة خطوات، بل قفزات كبيرة فى سبيل الإصلاح والتضميد بالعلاج لا بالمسكنات.
الغالبية تعلم حجم التحديات التى تحيط بمصر من كل الاتجاهات الرئيسية والفرعية. وعلى مدار السنوات الـ13 الماضية، أثبت المصرى -إلا قليلاً- لنفسه وللآخرين مدى نضجه ووعيه، بغض النظر عن مستواه التعليمى والاقتصادى.
حالة السوق تشغل المواطن وتقلقه: سوق الدولار الموازية أو السوداء، سوق السلع الغذائية الواقعة فى قبضة محترفى الربح السريع، سوق السلع غير الغذائية وما يعصف بها من أسعار عجيبة ترتفع، بينما أنت فى المتجر أو يتم رفعها من على الأرفف وتخزينها انتظاراً لعرضها غداً بسعر مضاعف، سوق الدروس الخصوصية، سوق مصروفات المدارس وباصاتها وغيرها من الأسواق التى يشعر كثيرون بأنها تحتاج للكثير من الضبط والربط.
المواطن المصرى مقاتل بطبيعته، إن لم يكن فى ساحة المعركة دفاعاً عن الحدود والأمن، ففى ساحة الحياة اليومية دفاعاً عن قوت يومه وأمن أسرته المعيشى، وكل ما يحتاجه معرفة حالة «اللحاف»، والتوقيت المتوقع لـ«مد رجليه» بناء على رؤية اقتصادية ناجعة وناجحة.