بقلم - أمينة خيري
يبدو أن الحرب الدائرة فى غزة اكتشفت أن بقايا من الأقنعة التى كان يتحلى بها العالم مازالت موجودة، فقررت أن تُزيل ما تبقى تمامًا، فإذا كانت المعايير الحقوقية المزدوجة، والمقاييس الإنسانية حمّالة الأوجه متعددة الألوان والأشكال والمذاقات، هى سمة أساسية من سمات الحرب الحالية، فقد أُضيف إليها كشف الستار عن قدرات تبدو بسيطة، لكنها فى حقيقة الأمر تتحكم فى وعينا ومعرفتنا وكأننا عرائس «ماريونت». والحقيقة أننا نتميز على عرائس الماريونت الخشبية التى يجرى تحريكها بخيوط، ونعلم جميعًا أنها دمية بلا مشاعر أو وعى، فقد نجحت كواليس هذه الحرب فى تحويل مليارات البشر حول العالم إلى «ماريونت» بمشاعر، لكن المشاعر يجرى تحريكها بخيوط أيضًا.
منذ بداية عملية حماس يوم 7 أكتوبر الجارى، والملايين يجلسون أمام الشاشات التلفزيونية يتابعون ما يجرى على مدار الدقيقة فى غزة ورام الله والقدس وغيرها من مدن تطولها شرارات الحرب. وتحتدم المتابعة ليلًا وقت تكون الكاميرات التلفزيونية مثبتة لتكشف «غزة ليلًا» أو كما يُكتب على البطاقات السياحية التى نشتريها لدى زيارتنا للمدن، حيث صورة للمدينة بأضوائها المتلألئة ليلًا تحت عنوان Gaza by Night. ليلًا، نجلس محدقين على «غزة»، نتابع عمليات القصف التى تُنير ليل غزة لدقائق إلى أن تسقط المقذوفات حيثما تقرر لها أن تسقط. لكن فى ليلة بدء الاجتياح البرى، تم تسويد الشاشات، وأمر مسؤولو إدارة شؤون «الماريونت» بمنع هذه المتابعة وهذا التحديق الليليين. قبل أيام قليلة، كتبت تحت عنوان «سحر الإعلام» هذه السطور: «متابعة القنوات الإخبارية بمختلف هوياتها وجنسياتها وأجنداتها تجعل المتلقى يشعر وكأن الحقيقة حقيقتان، أو كأن الحرب الجارية تغطيتها على هذه القناة تختلف عن تلك الدائرة رحاها على القناة الأخرى». لم يكن فى الحسبان أن المتابعة فى تلك الليلة ستنقطع، لا كهرباء أو اتصال أو تمكن من نقل ولو جانب مما يحدث على الأرض. كل ما نعلمه أن الاجتياح كان عبر الأرض والجو والبحر. أما حقيقة ما جرى وما سيجرى على الأرجح فستظل طى الكتمان، إلى أن يتحدث عنها مَن بقوا على قيد الحياة. أما ما يصدر عن الجهات الأخرى المشاركة فى تصدير صورة
Gaza by Night شكلًا وموضوعًا فلوحة قاتمة السواد، بلا اتصال أو تواصل باستثناء ما يصدر من بيانات من الجهة «الأخرى»، فهى الحلقة الجديدة من حلقات صناعة واقع بمقاسات ومقاييس تم تخطيطها قبل بدء الاجتياح. الواقع الافتراضى إذن لم يعد مقصورًا على تلك الهبدات العنكبوتية الصارخة على أثير الـ«سوشيال ميديا». اتضح أن الهبدات الأشد فداحة هى تلك التى جرى تصنيعها على أثير الحياة الحقيقية عبر تسويد الشاشات، وقبلها تسويد الحقائق والمجريات. ما جرى فى تلك الليلة، وعلى الأرجح، قد يجرى فى الليالى المقبلة، هو صناعة غطاء محكم يحجب غزة عن العالم، ويحجب العالم عن غزة. تركوا لنا الهبد الافتراضى، وانفردوا هم بالهبد الواقعى، وتحول العالم كله إلى غطاء ليلى.