بقلم - رضوان السيد
يمر المشرق العربي أو الشرق الأوسط منذ عشر سنواتٍ وأكثر بمرحلة يطلق المراقبون عليها أنها مرحلة التحول من الخوف من الدولة إلى الخوف عليها. وهي حالة سائلة في لبنان وسوريا والعراق وليبيا... وفلسطين. والفرق بين فلسطين والدول الأربع الأُخرى أنها محتلة. لكن مسألة الدولة أو إشكاليتها هي الجامع بين البلدان الخمسة. إنما لو دققنا لوجدنا أن الدول الأربع هي تحت احتلال التنظيمات المسلحة التي لا تريد الدولة في الحقيقة، لأنه إيذانٌ بتضاؤلها وزوالها. فالذين يريدون الدولة أو يشتاقون إليها هم الجمهور، المفجوع بالاحتلال في فلسطين، والمفجوع في البلدان الأخرى بميليشيات السلطة وسلطة الميليشيات!
بعد أيامٍ قليلة ينتهي في لبنان عهد الرئيس ميشال عون، وهو في الحقيقة ليس عهداً واحداً بل هو عهود. فعون عطل الجمهورية بطموحه للرئاسة 1988 – 1991، وأوقفها على حد السيف من منفاه (1991 - 2005)، ثم أعاد تعطيلها خلال مساعيه المتجددة للرئاسة (2008 - 2016)، ثم عطلها في فترة رئاسته (2016 - 2022). ما سر هذه القدرات العجائبية لعون عند الجمهور المسيحي في لبنان؟ فدائماً كان في جيبه وذراعه اقتناع خمسين أو ستين في المائة من الجمهور المسيحي. وينطبق هذا الأمر على الرئيس بشار الأسد الذي حكم السنوات العشر الأولى بعد وراثته لأبيه مستنداً إلى شرعية الاستقرار. بيد أن هذه الشرعية انتهت بالاضطراب الذي بدأ عام 2011 وما يزال مستمراً ومتفاقماً حتى اليوم. ما هو سر جاذبية عهود بشار، بعد تهجير 12 مليوناً من الشعب السوري، ومقتل نصف مليون، وخراب نصف سوريا؟! وما شهد العراق عهداً بسوء عهد المالكي الذي دام لأكثر من ثماني سنوات. ثم ها هو يعود متجدد القوى ليفرض رئيساً وحكومة على مثاله أو شبه مثاله مع أنه غاب لست سنواتٍ وأكثر فصدقنا زواله، كما صدقنا الخلاص من عون عند ذهابه للمنفى لخمسة عشر عاماً! ومعظم الليبيين ونسبة لا بأس بها من العراقيين ينوحون على القذافي وصدام. لكنْ لا أحد يملك القوة والإرادة للخروج من الوضع الراهن!
نواف سلام في كتابه: لبنان بين الأمس واليوم (2021)، يُجْمل علل المأزق في لبنان بالهيمنة الطائفية، والمواطنة المكبلة، والدولة غير المكتملة. ثم يجترح أُطروحة للخروج تتلخص في إقامة الجمهورية الثالثة التي تُعلي من شأن المؤسسات، وإقامة دولة مدنية عادلة وفاعلة بالمواطنة الجامعة ومفهوم سيادة القانون، والإصلاح المستند إلى تطبيق أحكام الطائف التي لم تنفذْ بعد!
ولو ذهبنا إلى أن السوريين والليبيين ما عادوا يمتلكون قوة الخروج لكثرة الجيوش والميليشيات على أرضهم، فما الذي يمنع اللبنانيين والعراقيين من استعادة ثورة عام 2019 التي سميت ثورة الجمهور، ومن أجل الحرية والكرامة والإصلاح. المطلوب أن يحصل في العراق ولبنان من جديد ذلك التمرد المدني الذي قادته فئات المجتمع الوسطى: هل تستطيع العين أن تقاوم المخرز كما يقال؟ الذي نعرفه مثل الجميع أن المخرز ما يزال ظاهراً أو مشهوراً بوضوح. لكن الوضع لا يجوز أن يبقى على ما هو عليه أو تزول الآمال في التغيير، ويستمر الناس في الهلاك، والعمران في تصدعٍ وانهيار!
فشل مجلس النواب اللبناني أربع أو خمس مرات بعد الاجتماع لانتخاب رئيس جديد. وعون الذي قضى سنوات وسنوات في الإعاقات والتعطيلات ينشط أخيراً لإبقاء ذكرى طيبة عن عهده. يعتبر أنه هو الذي عقد اتفاق ترسيم الحدود البحرية. ويطلب من صديقه بشار الأسد إعادة اللاجئين السوريين، وترسيم الحدود البحرية مع سوريا أيضاً. وبعد أن قيل إن الرئيس الأسد رحب بذلك، ما استطاع الوفد الذهاب لأن أحداً ما وافق على استقباله بسوريا الأسد رغم جلالة قدره؛ وبخاصة أن على رأس الوفد بو صعب نائب رئيس مجلس النواب الذي تكاثرت كراماته هذه الأيام، وأسرف الرئيس الجنرال في تكريمه بالأوسمة والميداليات! وكان الرئيس يعتزم (كسائر الرؤساء في نهايات عهودهم) تجنيس عدة مئات من السوريين والعراقيين وغيرهم كما فعل قبل أربع سنوات. هذه المرة فاحت الرائحة قبل الأوان، فرفض رئيس الحكومة الصفقة مع أنها حصلت من قبل بالصيغة نفسها. فهل يصر رئيس الجمهورية على هذا الإنجاز أيضاً، فينضم ملف التجنيس إلى سائر الملفات المخبوءة التي يتبارى خصوم عون هذه الأيام في إبرازها؟ فنحن اللبنانيين محظوظون في أننا نستطيع أن نفضح، لكن ليس من حقنا التعطيل وبخاصة إذا اتخذ سمة المحاسبة! ويبدو أن العراقيين أو بعض سلطاتهم صارت تمتلك أيضاً حق الفضح. فها هو الكاظمي يعلن عن ملاحقة متهمين بصفقة فساد بمليارين ونصف المليار دولار. صار الأشخاص معروفين، إنما هل يمكن محاسبتهم؟ الغالب لا، رغم منع السفر والقبض على أشخاص ليسوا هم المسؤولين عن الفساد بالتأكيد، وسينتهي الأمر بفكفكة بعض الحلقات التي لا تمس الكبار. وهكذا فلا شرطة جنائية ولا قضاء لا في لبنان ولا في العراق! تصوروا أن القاضية غادة عون المضطربة التصرف حصلت أيضاً على وسام من الرئيس الذاهب، وهي التي لم تترك خطأ إلا وارتكبته غير هيابة من الناس!
والذي فشل أيضاً ثورات عام 2019 في التغيير. لكن الثورات أبرزت ضرورة الانتخابات. والآن نعرف أن الانتخابات ليست نافعة أيضاً أو لا مفاعيل لها. ففي العراق عاد في النهاية وبعد الثورة ومئات الضحايا: المالكي وأنصاره. وفي لبنان وقد كانت الثورة ضد عون وصهره ومن أجل الانتخابات، عاد عون وصهره قويين وكذلك جعجع والتغييريون. لكن جعجع والتغييرين ما استطاعوا الاتفاق على مرشح، فصارت الاجتماعات العبثية لمجلس النواب التي ستنتهي إلى فراغ. ولأن عوناً فشل في جلب صهره؛ فهو ينتقم بعدم الموافقة على تشكيل حكومة. والحكومة الحالية حكومة تصريف أعمال، فهل تستطيع الحلول محل رئيس الجمهورية في حالة الفراغ؟ فقهاء عون الدستوريون وهم كثيرون يقولون: لا! أما ميقاتي فيقول إنه يرفض الابتزاز والخضوع لشروط عون. وهكذا فعل مقتدى الصدر بالعراق فعندما لم يستطع التأثير في تشكيل حكومة غالبية استقال نوابه فصار خارج اللعبة بقدرة قادر بعد أن كان سيدها في الشهور الأولى بعد الانتخابات.
تنسد الأبواب أمام التغيير في العراق ولبنان. وفي العراق تحسنت الموارد بسبب ارتفاع أسعار البترول. أما في لبنان فاستكان اللبنانيون قليلاً لأخبار الحدود البحرية كأنما تسلموا دولارات من باطن البحر. والغاز إذا أتى فبعد عشر سنوات. إنما المهم أن عوناً انسحب وخلصنا منه، بينما لا يأمل العراقيون خلاصاً من المالكي ولا من غيره.
هل هي نهاية مرحلة؟ الذي يشكك في ذلك أنه لا بشائِر لقيام الدولة. فلنقل إنها نهاية مرحلة إنما لا أفق!