بقلم - رضوان السيد
عندما ينظر الفقيه المجتهد في استنباط الحكم في واقعةٍ تمهيداً لإصداره، لا يتأمَّل أدلة المشروعية فقط؛ بل ينظر أيضاً في المآلات أي العواقب والآثار التي تترتب على الحكم في حال صدوره. ولذلك يقترن في النظر الفقهي الأمران: مشروعية الحكم وآثاره القريبة على الأقلّ. وليس المقصود من هذه التأملية التفلسف على المقاتلين أو ادّعاء تعليمهم وتوجيههم؛ بل التشارك في الهمّ والاهتمام، لأنّ المسألة في هذا السياق لا تقتصر على مصائر هذا التنظيم أو ذاك، بل تتعلَّق بالقضية الفلسطينية كلّها، وما وراء ذلك من مصلحةٍ أو مفسدةٍ على العرب والإسلام. الأمر عند الفقيه يدور إذن بين العلة والحكمة. والعلة بل العلل وراء مغامرة «حماس» وزميلاتها حاضرةٌ ومعتبرة. فقطاع غزة محاصرٌ منذ عام 2007، وناسُهُ وهم يزيدون على الملونين يعيشون كما يقال من قلة الموت! والعنف الصهيوني المباشر والمستمر على غزة والضفة والقدس إلى تزايد، ولا أمل في انفراجٍ من أي نوعٍ رغم الحديث الكثير عن إمكانياتٍ للهُدَن المتوسطة أو الطويلة.
فمنذ انقسام عام 2007 وانفصال «حماس» بغزة جرت عدة حروبٍ بين «حماس» وإسرائيل أحدثت خراباً كبيراً وضحايا كثيرين، دون أن يستطيع أحد الطرفين أو كلاهما الزعم أنه أحدث تحولاً كبيراً، لجهة إخماد مقاومة «حماس» أو ردْعها أو انتصارها على العدوّ المحتلّ. بل تمثل «الانتصار» بعد كل وقعةٍ حربية في صمود «حماس» وبقائها. ولكي يمكن القياس وتكون المقارنة ممكنة نذكر واقعة «حزب الله» مع إسرائيل عام 2006 التي عُدّت نصراً «إلهياً». أما الواقع فهو أنّ العدوّ احتلّ ستة كيلومترات جديدة على طول الحدود أو داخلها، واحتاج الأمر إلى ثلاث سنواتٍ ليجلو العدو عنها وبشكلٍ غير كامل حتى اليوم. وفي الأسبوع الثاني أو مطلع الثالث من تلك الحرب أذكر أنّ زعيم «حزب الله» قال ما معناه في تصريحٍ علني: «لو كنتُ أعلم ما سيحصل ما قمنا بهذه العملية التي أدّت إلى حرب!».
إنّ حرب «طوفان الأقصى» لا تُقارنُ بها أيُّ حربٍ أُخرى من حروب التنظيمات المسلَّحة الجهادية أو التحريرية. فبعد حرب عام 2006 جاءت القوات الدولية لمؤازرة الجيش اللبناني على الحدود، وأنفقت الدول العربية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية المليارات لإعادة الإعمار. ومنذ ذلك الحين وبدلاً من إظهار الحزب لشيء من التواضع بعد الخسائر الكبيرة له وللبنان تكبّر واستولى بالتدريج على كل شيء بالداخل اللبناني، وألغى فاعلية القوات الدولية بالجنوب كما نرى هذه الأيام.
فما أقصده أنه بعد السؤال عن العِلّة للقيام بهذه المغامرة يأتي فوراً السؤال عن الحكمة وعن العواقب والمآلات. والفقيه في أحكامه وبالنظر في الحكمة يقدّم اعتبار درء المفاسد على جلب المصالح. والسلبيات أو المفاسد كما هو معروفٌ غالبة حتى الآن وربما في المستقبل. لكنّ أنصار هذه المغامرة يشيرون إلى بعض المصالح؛ مثل التنبيه إلى القضية الفلسطينية بعد طول سُبات، وتواتُر الحديث عن حلّ الدولتين، والاستيقاظ إلى هشاشة الجيش والأمن الإسرائيلي. وهذه الهشاشة هي بين دوافع وعوامل الوحشية البادية في العمليات العسكرية الجارية في القطاع وفي الضفة، لاستعادة الهيبة والصدقية!
لكن لننظر في السلبيات التي ظهرت وستظهر تباعاً لأنّ المصائب كما قال ويليام شكسبير لا تأتي فُرادى. لدينا وقائع مقتل وإصابة عدد كبير من الفلسطينيين معظمهم نساء وأطفال، وخراب أو تضرر 60 في المائة من مباني القطاع. ثم ما هو مصير القطاع إن نجا سكانه من التهجير بسبب الرفض المصري. في الجلاء عن ستة كيلومترات بجنوب لبنان استغرق الأمر بعد النصر الإلهيّ ثلاث سنوات. ثم من الذي سيدير القطاع ويحظى برضا الأميركيين والإسرائيليين والسلطة الفلسطينية والعرب خصوصاً المصريين؟! ومن سيتكفل بإعادة الإعمار؟ ومن الذي سيعوّض الضحايا؟ بعض الحماسيين يتحدثون الآن عن حكومة وحدة وطنية مع السلطة الفلسطينية، وهذا أمر جيد، لكنه ما نجح من قبل رغم كثرة الوساطات لذلك من مصر والسعودية وقطر وتركيا! ولو تمّت التسوية بين الطرفين من قبل لعاد المشروع الوطني الفلسطيني إلى التوحد، ولاندفع العرب والعالم للضغط من أجل حلّ الدولتين، بدلاً من ضياع الحلول الممكنة على أيدي الفلسطينيين أنفسهم، واعتماد الإسرائيليين على ذلك الانقسام، بل والوقوف أحياناً إلى جانب «حماس»، لأنهم لا يريدون مشروعية محمود عباس والعودة إلى أوسلو! فهل كانت «حماس» مثلاً تتوقع أن تفكّ الحصار عن غزة بهجومها، وبذلك يتغير مسار القضية الفلسطينية؟!وعلى أي حال ولندعْ «لو»، لأنه كما جاء في الأثر فإنّ «لو» تفتح عمل الشيطان (!). نحن لا نزال في نطاق قراءة العواقب المباشرة لهذه الحرب. كل يوم يزداد الخراب والقتل، وكل يوم يقول لنا الصهاينة إنّ حربهم أبدية، وكل يوم ترجو المؤسسات الإنسانية الدولية إدخال بعض الغذاء والدواء إلى القطاع، وأخيراً كل يوم تصدر أوامر إسرائيلية للسكان المساكين بالجلاء عن هذه المنطقة إلى تلك، وهي المنطقة التي لم يأتوا إليها إلا قبل أسبوع أو نحوه وبأوامر إسرائيلية!
ولأننا بصدد الحديث عن الحكمة فلنلق نظرةً على إيران. وإيران يحكمها فقهاء وهؤلاء يتجاوزون في مصادر اجتهادهم الحكمة إلى العقل ذاته. أول من أمس قتلت إسرائيل بضاحية بيروت (مقر حزب الله) صالح العاروري نائب رئيس المكتب السياسي لـ«حركة حماس». ولا شكّ أنّ هناك عشرات المسؤولين من وعن التنظيمات المسلحة المصنوعة إيرانياً يقبعون في جوار القائد العام، وينتظرون قراراته بما في ذلك بالطبع الحوثيون وعندهم بالضاحية فضائية لطالما شنّف آذاننا من خلالها قائدهم بخطاباته الشديدة الهول. قال الإيرانيون أولاً إنهم لم يعلموا بهجوم «حماس» مسبقاً، ثم ادعى أحدهم أن «حركة حماس» ما قامت بهجومها إلا ثأراً لقاسم سليماني! وجرى الأمر نفسه مع الحوثيين في هجماتهم بالجوّ والبحر، فأنكر الإيرانيون اتهام بريطانيا لهم، ثم وجدنا المتحدث باسمهم محمد عبد السلام فليتة في طهران! إيران جرّت كل هذه الميليشيات إلى الحرب ضد إسرائيل وضد أميركا... وبالطبع ضد العرب. فهؤلاء جميعاً يتحركون من أراضٍ عربية استولوا عليها بتوجيهٍ إيراني ووجودٍ إيراني، ونحن لا نسأل هنا عن العلة، لأننا نفترض أن الإيرانيين يريدون أيضاً إزالة الاحتلال الإسرائيلي (!) نحن نسأل عن الحكمة والمعقولية ما داموا فقهاء العقل والمنطق: لماذا الحرب الآن؟ قيل: لأنهم لأنهم يريدون ابتزاز الغرب وأميركا والكسب منهم. وإذا قيل إنَّ هذا سبب غير مقنع فلنتأمل السلوك الإيراني طوال العقود الماضية، فقد كسبوا دائماً، وحتى الآن لا تريد الولايات المتحدة ممارسة ضغطٍ عسكري مباشر على الحوثيين حتى لا تزعج إيران كثيراً.
وهكذا فإنّ مقولة شكسبير بشأن تعدد المصائب وتواليها تنطبق علينا بالفعل.
لا نعلم ما سيحدث غداً وأظن أن «حركة حماس» في الموقف نفسه. والذي نعلمه جميعاً استمرار قتل الأطفال في غزة، والشباب في الضفة، وفتيان الحزب في جنوب لبنان!