بقلم - رضوان السيد
بحسب كتاب «البحر الأريتري» من القرن الرابع الميلادي: لا يمكن ممارسة التجارة بالقوة! فالتجارة حرفة وممارسة سلامٍ وتبادل وصداقة، وهي تقوم على حرية الاختيار والقبول من طرفين أو أطراف، ولذلك يتحدث توبي هاف في كتابه المعروف «الحضارات الثلاث» (ويعني بذلك الحضارة الإسلامية والصينية والأوروبية) عن ثمانية قرون من «ثقافة السلام بالتجارة» بين القرنين السابع والخامس عشر للميلاد. هذا «العهد» غير المكتوب دمّره البرتغاليون في مطلع القرن الخامس عشر عندما زوّدوا البواخر التجارية بالمدافع، ثم صارت السفن الحربية ترافق السفن التجارية، ليس للدفاع عنها فقط (في وجه العثمانيين والأوروبيين الآخرين)، بل لفرض السِلَع على التجار في موانئ بحر العرب أو بحر عُمان والبحر الأحمر والمحيط الهندي!
في هذه المساحة الشاسعة الشديدة الحساسية للتجارة والملاحة البحرية العالمية منذ عصورٍ، ظهر نجوم جدد نسبياً إلى جانب - أو لمنافسة - القدامى، أهمهم بالطبع الولايات المتحدة والروس والهند، إلى النمو الهائل للاهتمام الصيني. وإلى عقدين أو ثلاثة، كان البترول هو السلعة الرئيسية، أما اليوم فإن سِلَع النهوض الصيني والشرق آسيوي في المحيطين الهندي والباسيفيكي صارت عجيبة العالم وحكايته. لقد بلغ من قوة الصين التجارية وقدراتها على المبادرة أن طرحت في عام 2013 المشروع العالمي المسمَّى «الحزام والطريق»، وظاهره تجديد لطريق الحرير القديم (البري أساساً)، لكنه بالفعل محاولة لإحلال «السلام الصيني» محلَّ «السلام البريطاني - الأميركي» السائد منذ القرن الثامن عشر.
لماذا هذ التقديم عن السلام والتجارة وموقع أميركا والصين منهما في المحيط الهندي؟ قمت بذلك لثلاثة أسباب: الأول أنّ صراع المصائر أو تنافس المصائر في المحيط الهندي وحواشيه هو بين الولايات المتحدة (ووراءها الغرب الأوروبي واليابان وتحاول أميركا أن تشارك الهند) والصين (ومن ورائها شرق آسيا)، وإن لم يبرز طرفٌ رأسه. وكلا المحورين تحت سقف السلام، بمعنى عدم استخدام القوة ظاهراً في «التجارة»، وإن يكن هناك حديث عن تجاذبات القوة في بحر الصين. والثاني: أنّ الدول العربية في الخليج وخارجه يقع وجودها ومصالحها على الخلجان والرؤوس الشرقية للمحيط والبحر الأحمر ومتفرعاتهما. والثالث: أنّ إيران تكاد تنفرد من سنوات بتحدي مقولة: شرط التجارة السلام؛ بتحدي الغرب والدول العربية في البر والبحر من طريق نشر الميليشيات الطائفية في الدول، ومن طريق الهجمات على السفن الغربية والعربية في مضيق هرمز وموانئ دولة الإمارات والبحر الأحمر وبحر عُمان.
النفط هو السلعة الرئيسية عند إيران للتصدير. وقد تضرر التصدير كثيراً بإعراض الشركات الغربية المستوردة عن شراء النفط الإيراني خوفاً من العقوبات الأميركية. لكن المشكلة بين إيران والولايات المتحدة تتجاوز تصدير النفط إلى الملف النووي المنعقد حوله اتفاق بينهما صار دولياً عام 2015، خرجت منه الولايات المتحدة أيام ترمب (2017-2018). لقد كان تركيز إيران في العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين على نشر مناطق النفوذ والميليشيات الحامية والمخرِّبة في الدول العربية. وزاد الطين بلة الغزو الأميركي للعراق، وصعود ردات الفعل العنيفة على الانتشار الإيراني والغزو الأميركي. لقد تحولت عدة بلدانٍ عربية إلى مسارح للقتل والتهجير وتبادل الضربات بالإرهاب، بينما شعرت سائر الدول العربية بالخطر والتهديد. وقد غلب على التفكير الاستراتيجي الإيراني دافعان: نشر السيطرة، ولو بالتخريب، والحلول محلّ الغرب الأميركي والأوروبي في المنطقة. وظهر عاملان جديدان تدخليان: الروس والأتراك، والصينيون. فاضطرت إيران للتشارك مع الروس والأتراك الذين أظهروا استعداداً مثلها لاستخدام العنف، وترددت ثم تحالفت (رسمياً) مع الصين في اتفاقية مستقبلية للتبادل والتآزر كلها لصالح الصين!
في العامين 2020 و2021 تظهر بالتدريج معالم مرحلة جديدة تثير حيرة وعدم تأكد لدى الجميع؛ من نحو السنوات العشر تعلن الولايات المتحدة عن نيتها الانسحاب من الشرق الأوسط (وحتى أفغانستان بجوار الصين وروسيا!)، واستدارتها باتجاه الصين للتنافس والمواجهة، باستثناء التدخل لصالح إسرائيل إذا بدا ذلك ضرورياً. لكنّ هذا الانسحاب لا يشمل بالطبع المحيط الهندي والبحر الأحمر، حيث ما تزال مصالح استراتيجية أميركية وغربية كبرى زاهرة متصاعدة، وحيث يصير المحيط جزءاً أساسياً في خريطة التنافس مع الصين من باب المندب وبحر العرب إلى بحر الصين الجنوبي!
في هذه المرحلة بالذات تستمر إيران في تحصين مناطق النفوذ في العالم العربي، لكنها تذهب أيضاً وبعنف لمصارعة الأميركيين والغربيين... والإسرائيليين في البحر الأحمر والمحيط، تارة بالزوارق السريعة والطائرات المسيَّرة للحرس الثوري، وطوراً بمسيَّرات وغواصي ميليشياتها في بحر عُمان والبحر الأحمر، والمداخل والمنافذ الأُخرى للمحيط العظيم. لقد بدأت إيران مواجهة السفن التجارية في مضيق هرمز، ثم أرادت تجنب الاشتباك الممكن في شرفتها الأمامية، فانتقلت بنفسها وعن طريق عملائها إلى المجال المقابل، وإن أزعج ذلك أصدقاءها العُمانيين!
لقد انقضى زمن الاستعمار، حيث كانت الحرب تستخدم لممارسة التجارة بالقوة. وكل القوى العظمى اليوم تمارس التجارة تحت سقف السلام، وإن بدا مضغوطاً أحياناً. فلماذا تجرؤ إيران على ممارسة ليس التجارة، بل تعطيلها بالحرب؟ لا يمكن بالطبع لحلفائها، سواء الصين أو روسيا، المجاملة في ذلك لأنّ مصالحهم التجارية أكبر بكثير من مصلحتهم في «مجاملة» العنف البحري، وحتى البري، الإيراني!
لقد ضرب الإيرانيون سفينة في بحر عُمان، واختطفوا أُخرى على مقربة من ميناء الفجيرة الإماراتي! وبدا الإسرائيليون والبريطانيون والأميركيون الأكثر غضباً وسخطاً. ولدى الأميركيين الأسطول الخامس بالمحيط، ولدى البريطانيين قوة بحرية معتبرة. أما الإسرائيليون فما أخفوا نيتهم في الضرب المضادّ. وأما الطرفان الكبيران الآخران فيهددان لكن يبدو أنهما يفضلان الدبلوماسية البحرية، كما فعلا حتى الآن، إضافة للهجمات السرية!
لماذا يفعل الإيرانيون ذلك الآن؟ لإثبات قوة الرئيس الجديد: رئيسي، وأنه لا يخشى الأميركيين. ولإثبات أنّ المصالح الاستراتيجية الإيرانية تتخطى النووي والسلام التجاري. ولدى الإيرانيين سوابق في التحدي، وقد نجحوا فيها جميعاً براً وبحراً، فلماذا لا ينجحون الآن ويصبحون سادة الدبلوماسية البحرية فيما وراء مضيق هرمز؟! لكن يضاف لذلك أنهم يريدون تغيير مسار فيينا للتفاوض على النووي، وقد قال خامنئي قبل أسابيع بإزالة كل العقوبات، والعودة إلى الاتفاق القديم كله بلا زيادة، ولا يقبلون التفاوض على الصواريخ الباليستية أو على التدخلات بالمنطقة (العربية)!
وهكذا يبدو أنّ المشكلات تتعقّد، وما عادت قاصرة على الاتفاق النووي قبولاً أو رفضاً. حتى الآن، كان العرب هم الطرف المتضرر الرئيسي براً وبحراً. والآن، ينضم إليهم بوضوح الغربيون الأطلسيون وبالبحر إلى جانب البر. ولا توازُنَ يمنع الضرر، ويعيد الاستقرار والسلام، إلا بظهور طرفٍ عربي قوي موحَّد أو متضامن، أو تظلَّ دولنا ووحدتنا واستقرارنا ومدياتنا الاستراتيجية عرضة للمفاوضة والمساومة والهضم والانتقاص.