أوضاع العالم وصعوبات الاستقلال الأخلاقي

أوضاع العالم وصعوبات الاستقلال الأخلاقي

أوضاع العالم وصعوبات الاستقلال الأخلاقي

 العرب اليوم -

أوضاع العالم وصعوبات الاستقلال الأخلاقي

بقلم - رضوان السيد

كنت قبل أيام في ليالي رمضان الطويلة أقرأ للمرة الثانية أو الثالثة كتاب فرنك فردي: «في التسامح، دفاع عن الاستقلال الأخلاقي». وهو يتميز على الكثير من مؤلفات المفكرين اليساريين والليبراليين بالتركيز على الصعوبات الذاتية للتيقظ الأخلاقي. إذ تعودنا أن ننسب للسلطات السياسية الاستئثار بالضغط على المثقفين وأهل الرأي للحيلولة دون مخالفة توجهات تلك السلطات فيما تعتبره مصالح وطنية أو قومية. فرنك فردي يعتبر ضغوط السلطات عبئاً أصغر إذا قورن بضغوط التنبه أو الضرورات الأخلاقية، والتي لا تلعب فيها السلطات ولا اتجاهات الرأي العام دوراً بارزاً. وأبرز مثالٍ على ذلك هذه الأيام الحرب الروسية على أوكرانيا. فالدول العربية اتخذت في معظمها موقف الحياد الإيجابي إذا صح التعبير، فتركت المجال للمثقفين والإعلاميين لكي يعبر كل عن توجهاته وتحليلاته وميوله دونما تعرضٍ ظاهرٍ لحرية التعبير في هذا الاتجاه أو ذاك. ولذلك آثر البعض منا المصير إلى التحليلات الاستراتيجية في العلاقات بين الغرب الأوروبي والأطلسي من جهة، وروسيا الاتحادية من جهة أخرى. في حين اتجه البعض الآخر إلى إدانة تلك الحرب معتبراً إياها عدواناً موصوفاً على حريات الشعب الأوكراني وسيادته واختياراته السياسية. ومضت قلة ثالثة للتركيز على العوامل الإنسانية المعنية بحيوات الجمهور وأحداث القتل والتهجير، معتبرة ذلك كله مأساة إنسانية. وهي القلة التي أقلقها كما أقلق كثيرين في الغرب والشرق عجز النظام الدولي ومجلس الأمن - على كثرة انعقاده أخيراً - عن إيقاف تلك الحرب بأي ثمن حفظاً للحياة الإنسانية ولا شيء غير.
في مثل هذه الظروف يبرز مثالا السلام والعدالة. وهما مثالان يكادان يكونان في العالم المعاصر في حالة تناقضٍ وتضارُبٍ دائم. لأنه يكاد يكون من المستحيل أن يتلاقيا أو يجتمعا عند محاولة فض نزاعٍ ما. فالمظلومون أو الذين يتعرضون للعدوان يريدون الأمرين معاً وبخاصة العدالة. أما في المشهد العالمي فالجميع يطالبون بوقف الحرب، على أن يجري التفكير فيما بعد - بعد وقف إطلاق النار - في المثال الآخر، مثال العدالة. وهناك تسليمٌ من جهة أُخرى أن السلام دون عدالة لا يكاد يتحقق أو يستمر. إنما في ظروف الأزمات المشتعلة ولالتقاط الأنفاس يستسلم الجميع - بمن في ذلك الأوكرانيون - لوقف النار أو ذاك السلام المنقوص.
وأكاد أذهب - ولست وحيداً في ذلك - إلى أنه ما عانت أمة من الأُمم في العالم الحديث والمعاصر، كما عانى العرب من تعذر تلاقي السلام بالعدالة، وفي قضية فلسطين أولاً، ثم في سائر القضايا والمشكلات في سوريا وليبيا واليمن والعراق... ولبنان. ودائماً يتكرر في أحاديث الملاحم العربية والإسلامية التعبير بأنها «فتنة على دَخَن». بمعنى أن النار الظاهرة لا تخمد إلى غير رجعة بل يظل الدخان في الأجواء نذيراً بعودة النيران للاشتعال. والدخان اليوم يتصاعد كما في كل عامٍ من المسجد الأقصى وما حوله.

وسط النيران والركام والدماء في كل مكانٍ ما معنى الاستقلال الأخلاقي أو الاستقامة الأخلاقية؟ في كل الأزمات الحاضرة يبرز طرفٌ قومي يتجه لضرب الآخرين الذين يرى فيهم ضعفاً وتعرضاً بحجة حفظ أمنه أو الدفاع عنه. وهذا الضعيف الذي يتعرض للضرب لن يتوقف ضربه إلا إذا خمدت مقاومته تماماً. وإذا خمدت مقاومته تماماً فقد تأبد انتصار القوي. إنما خلال جولات الكر والفر لا يبقى الطرفان وحدهما في الصراع، بل تتقدم أطرافٌ أُخرى قريبة أو بعيدة إما لمشاركة القوي في الغنيمة المرتجاة، أو لاستغلال ضعف الضعيف بحجة الانتصار له! وفي كل الحالات يصير الصراع صراعات، وبالتالي يتعذر الإخماد.
ما معنى الاستقلال الأخلاقي وما فائدته؟ إذا كان المقصود بالاستقلال الأخلاقي تحقق فائدة حاضرة لإحدى قيمتي السلام أو العدالة؛ فإن التوقعات من وراء الموقف تصبح عبثية أو دون فائدة. وها هو نعوم تشومسكي يكتب في إدانة الإمبريالية الأميركية منذ خمسين عاماً من دون أن يؤثر في طغيان الولايات المتحدة أو زحوفها. وها هو البرلمان الروسي يهدد من يعارض الحرب على أوكرانيا بعقوباتٍ بالسجن والغرامة باعتبار أن الحرب حربٌ وطنية، وفي معارضتها خيانة للوطن الروسي! ومن لا يصدق أو يخشى فلينظر ويعتبر بما حصل للمعارض نافالني وأمثاله ممن صاروا في خبر كان. لكننا هنا نعود لضغوط السلطات، وهو الأمر الذي ما قصدناه من هذه المداخلة. الاستقامة الأخلاقية تجد قوتها في ذاتها، وفي قدرتها على التأثير في الضمير العام. إنما من جهة أُخرى فإن الأوروبيين وهم يتأملون ما يحصل لماريوبول يتذكرون ما حصل في أعوام 2013 - 2016 لحمص وحلب والغوطة بالكيماوي وبالبراميل المتفجرة والطائرات والمدفعية. وكأنهم يقولون: لو أمكن منع النظام السوري وروسيا وإيران من ارتكاب مذابح المدن تلك، لما حصل الآن ما يحصل للمدن والبلدات الأوكرانية!
إن أهمية الضمير الأخلاقي، والاستقلال الأخلاقي، هو في إطلاله على الضمير العالمي وإنسانية الإنسان. وهي اعتباراتٌ ما كانت مطروحة عند النزاع على فلسطين في الأربعينات من القرن الماضي، وصارت ممكنة الآن. يومها تصور العالم القضية قضية شعبٍ تعرض للهولوكوست وهو يبحث عن وطن، فجرى تجاهل الحق الفلسطيني لصالح الحق في الإنقاذ من الإبادة! ما كان هناك ضميرٌ عالمي رغم ميثاق الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. واليوم هناك ضميرٌ إنساني يتقدم حتى على اعتبارات الميثاق والإعلان. هل في ذلك عزاء؟ قد لا يتعزى بذلك الأكثرون، لكن هذا هو معنى الاستقلال الأخلاقي، والضمير الأخلاقي، وإنسانية الإنسان.
ليكن الأمر واضحاً. ما عاد من الممكن الغفلة أو الاستسلام للعجز وقلة الحيلة. بل هناك خيارٌ واحدٌ ووحيدٌ هو التنبه والتنبيه واليقظة. التنبه الذاتي، واستحثاث الآخرين على الانتباه. هناك كما قال ماكس فيبر: أخلاق الالتزام، وأخلاق المسؤولية. وقِدماً ضرب لنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مثل السفينة الواحدة للمصير الإنساني الواحد. وهي سفينة ذات طبقتين. فإن لم يتنبه الذين في أعلاها إلى ما يفعله الذين في أسفلها هلكوا وهلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً... وتلا رسول الله بعد هذا المثل قوله تعالى: «واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب».
الآلام البشرية لا تُطاق. ونحن أفراداً كنا أو جماعات عضوٌ من هذه الأعضاء المتألمة. وما عاد ممكناً القول: انجُ سعد فقد هلك سَعيد. إذ لا نجاة لأحدٍ منا إذا هلك جوارنا الإنساني. والذين يصلون في الأقصى تحت الحراب الإسرائيلية، والذين يقاتلون الروس في ماريوبول وخاركيف وأوديسا، سيان، في تمثيلهم للضمير الإنساني والمصير الإنساني الواحد.
يفتخر الغربيون دائماً بالفردانية التي قام عليها الغرب الحديث. لكن الاستقلال الأخلاقي اليوم يصل الفرد بالجماعة في الضمير العام.

arabstoday

GMT 13:05 2024 السبت ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حزب الله بخير

GMT 11:57 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مرحلة دفاع «الدويلة اللبنانيّة» عن «دولة حزب الله»

GMT 11:55 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

هل هذا كل ما يملكه حزب الله ؟؟؟!

GMT 20:31 2024 الجمعة ,13 أيلول / سبتمبر

عشر سنوات على الكيان الحوثي - الإيراني في اليمن

GMT 20:13 2024 الخميس ,12 أيلول / سبتمبر

صدمات انتخابية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أوضاع العالم وصعوبات الاستقلال الأخلاقي أوضاع العالم وصعوبات الاستقلال الأخلاقي



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 22:00 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

كريستيانو رونالدو يدرس تأجيل اعتزاله للعب مع نجله
 العرب اليوم - كريستيانو رونالدو يدرس تأجيل اعتزاله للعب مع نجله

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
 العرب اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 09:07 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
 العرب اليوم - "نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 07:15 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامين سي يعزز نتائج العلاج الكيميائي لسرطان البنكرياس

GMT 06:15 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

1000 يوم.. ومازالت الغرابة مستمرة

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 15:49 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الاتحاد الأوروبي يؤجل عودة برشلونة إلى ملعب كامب نو

GMT 14:52 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الرئاسة الفلسطينية تعلّق على "إنشاء منطقة عازلة" في شمال غزة

GMT 06:27 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الجيش الإسرائيلي يصدر تحذيرا لـ3 مناطق في جنوب لبنان

GMT 12:26 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الجنائية الدولية تصدر مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو وغالانت

GMT 13:22 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الرئيس الإيراني يناشد البابا فرانسيس التدخل لوقف الحرب

GMT 13:29 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

رئيس دولة الإمارات وعاهل الأردن يبحثان العلاقات الثنائية

GMT 14:18 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي

GMT 06:52 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

نتنياهو يعلن عن مكافأة 5 ملايين دولار مقابل عودة كل رهينة

GMT 14:17 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

نادين نجيم تكشف عن سبب غيابها عن الأعمال المصرية

GMT 09:07 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 23:34 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

يسرا تشارك في حفل توقيع كتاب «فن الخيال» لميرفت أبو عوف
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab