يعلم “الحزب” والإيرانيّون أنّ الجبهة صارت من الماضي. فلماذا هذا الإصرار أخيراً على السلاح والمقاومة والتحدّي؟! الراجح أنّ في ذلك عودة إلى وظيفة “الحزب” التقليدية باعتباره ذراعاً إيرانيةً تحتاج إليها دولة الوليّ” الفقيه في مفاوضاتها مع إدارة الرئيس دونالد ترامب. ما بقي من الأذرع غير الحوثيين المحاصرين و”الحزب” الضعيف. وبقي لـ”الحزب” الوظيفة التهويليّة بالداخل وعلى الحدود مع سورية الجديدة.
تختلف التصريحات بل والمشروعات في شأن سلاح “الحزب”، وتتوالى الآراء متكاثرة بين لبنان والخارج الأميركي والأوروبي والإيراني. وتبدو في الظاهر خلافاً على تفسير القرار الدولي رقم 1701 الذي أُقرّ عام 2006، وتجدّد تأكيده بعد حرب الإسناد عام 2024. ثمّة ثلاثة اتّجاهات في تفسيرات القرار ومقتضياته والتزاماته:
هناك الرأي القائل إنّ القرار مُلزمٌ بنزع سلاح “الحزب” على كلّ الأرض اللبنانية بدءاً بجنوب الليطاني. وقد بدأ الجيش والقوّات الدولية بإنفاذ هذا النزع في جنوب الليطاني بالفعل. لكنّ إسرائيل اعتبرت النزع والإجلاء بطيئَين، وانتهزت فرصة إطلاق الصواريخ على المستوطنات فأصرّت على البقاء في خمسة مواقع داخل الأرض اللبنانية، وتشنّ غارات وتطلق مسيّرات بين جنوب الليطاني وشماله وسائر الأرض اللبنانية، فتغتال وتخرّب وتذهب إلى أنّها إنّما تتتبّع عناصر فاعلة في “الحزب”، وفي إحدى المرّات قالت إنّها قتلت قائداً في “حماس”! ويبدو أنّ النزع الشامل للسلاح، ولو بالتدريج، هو مقتضى تفسير إسرائيل وأميركا والحكومة اللبنانية للقرار الدولي.
أمّا الرأي الثاني فيقول: المهمّ الآن إجلاء “الحزب” وأسلحته وأنفاقه عن جنوب الليطاني وشماله إلى حدود صيدا، أي بين 40 و60 كيلومتراً عن الحدود، لكي يستحيل قيام جبهة من جنوب لبنان. وفي هذه الحالة لا بأس بتأجيل الحديث عن بقيّة أنحاء لبنان، لأنّ الجيش لا يستطيع على أيّ حال العمل ضدّ السلاح على كلّ الأرض، ولا بدّ أن تسبق ذلك محاولة تفاوض على “الاستراتيجية الدفاعية” الشهيرة، فسلاح “الحزب” هو من الكثافة والضخامة والامتداد بحيث لا يمكن الخلاص منه بسهولة.
تختلف التصريحات بل والمشروعات في شأن سلاح “الحزب”، وتتوالى الآراء متكاثرة بين لبنان والخارج الأميركي والأوروبي والإيراني
بيد أنّ المشكلة في هذا الرأي “العاقل”، الذي يبدو أنّ فرنسا الحبيبة والغيورة على لبنان من أنصاره، أنّ إسرائيل وأميركا وفريقاً من اللبنانيين ليسوا من مؤيّديه.
أمّا الاتّجاه الثالث، وهو اتّجاه “الحزب” وأنصاره، فقد بدأ بشكل ثمّ تطوّر بأشكالٍ متعدّدة إلى أن رفض أخيراً الفكرة ذاتها، متجاوزاً موافقة الرئيس نبيه برّي باسمه على القرار الدولي بالتفسير الأميركي له. في البداية بعد وقف القتال مباشرةً، بدا “الحزب” موافقاً على إخلاء منطقة جنوب الليطاني من السلاح والمسلّحين، إنّما دونما إعلان ذلك، لكي لا يزعج أنصاره وبينهم ألوفٌ ممّن قُتل أبناؤهم وخربت بيوتهم ومزارعهم في جنوب الليطاني وشماله وفي البقاع وبعلبك أيضاً حتّى الحدود مع سورية.
كلمة الفصل في المحادثات
على أيّ حال، هناك شيء قد حصل حتّى عاد “الحزب” أو مبعوثوه إلى إطلاق الصواريخ، مرّتين وليس مرّةً واحدة. بقيت إسرائيل في المراكز أو التلال الخمس، وانطلقت هجماتها من جديد، فظهر تطوّر مستجدّ في “رأي” الحزب، وهو: لا يجوز الحديث عن نزع سلاح “المقاومة” إلى أن تنسحب إسرائيل من النقاط الخمس وتتوقّف غاراتها. إنّما في الوقت نفسه، أي قبل حوالي شهر، عندما كثر الجدال في شأن كيفيّة نزع السلاح والآجال والآمال، جادل “الحزب” وأنصاره في أنّ القائلين بنزع السلاح بالقوّة، ومنهم لبنانيون (وأميركيون)، هم خونة وعملاء، و”المقاومة” ما تزال من القوّة بحيث تستطيع التصدّي لهم ولإسرائيل معاً.
جاءت المندوبة الأميركية إلى لبنان، وصرّحت بما صرّحت بعد ذهابها، ثمّ صرّح رئيس الجمهورية، وبدا أنّه يحصر أمر التفاوض وصيغ النزع بنفسه مع الرئيس نبيه برّي و”الحزب”، فانطلقت إعلانات “الحزب”: لا نزع ولا مَنْ يحزنون، وسلاح “المقاومة باقٍ”. فلمّا بدأت المفاوضات الأميركية الإيرانية في عُمان ثمّ في روما تكاثفت التصريحات. ومنها صوت الأمين العامّ لـ”الحزب”: “سنواجه من يعمل على نزع سلاحنا كما واجهنا إسرائيل”. وصوت وفيق صفا وعدد من نوّاب “الحزب”: سلاح “المقاومة” قوّة للبنان، والسلطة اللبنانية عاجزة عن وقف العدوان وردّ السكّان وإعادة الإعمار، ولا بدّ من تقوية الجيش قبل التفكير في مصائر سلاح “الحزب”.
لا شكّ أنّ خطاب الحسم هذا له علاقة بالمفاوضات التي انطلقت بين إدارة ترامب وإيران على النوويّ. ولنتذكّر أنّ مسؤولاً إيرانيّاً كبيراً صرّح عام 2015، إبّان اتّفاق إدارة باراك أوباما مع إيران على النوويّ، أنّ “الحزب” له فضلٌ في “الانتصار” الذي حقّقته إيران من خلال ذلك الاتّفاق. وهكذا أظنّ أنّ “الحزب” سيكون مستعدّاً للتخلّي عن سلاحه إذا تحقّق اتّفاق أو مُهادنة بين إيران وأميركا، وأمّا إن لم يحصل اتّفاق فتنتظرنا متاعب كبرى مع “الحزب” وأنصاره، سواء أراد الرئيس برّي أو لم يرِد.
هناك شيء قد حصل حتّى عاد “الحزب” أو مبعوثوه إلى إطلاق الصواريخ، مرّتين وليس مرّةً واحدة
الصّبر والتّفكير الهادئ
صحيح أنّ اللبنانيين يُكثرون من الكلام، وهو ما لم يرِده رئيس الجمهورية حتّى لا تستجدّ متاعب وعراقيل لا داعي لها. لا أحد يعرف ما معنى الاستراتيجية الدفاعية (؟)، وهل تعني ببساطة تسليم “الحزب” سلاحه إلى الجيش؟ أم يتمّ الأمر بانضمام مسلّحي “الحزب” بأسلحتهم إلى الجيش؟ ويبدو أنّ هذه الفكرة (انضمام مسلّحي “الحزب” بأسلحتهم) طُرحت في الاتّصالات السرّيّة. ولذلك صرّح الرئيس أن لا مانع من ذلك، لكن ليس على طريقة الحشد الشعبي بالعراق. وقد أثار التصريح غضب العراقيين، وخاف منه اللبنانيون، فالكاتب الاستراتيجي رياض قهوجي نشر في جريدة “النهار” تحليلاً قال فيه إنّ هؤلاء المسلّحين هم عقائديون ولا يصحّ ضمّهم بأسلحتهم وعقائدهم إلى الجيش لأنّهم ولائيّون ديناً للمرشد الإيراني، وهم جزءٌ من الحرس الثوري. ولهذه الجهة لا يختلفون عن مسلّحي “القاعدة” و”داعش”، وهناك مئاتٌ من المشبوهين في السجون اللبنانية. المشبوهون السنّة بالإرهاب هم في السجون بدون محاكمات منذ سنوات، والعقائديون الشيعة يصبحون جنوداً وضبّاطاً في الجيش اللبناني؟!
لستُ أعرف بالفعل كيف يمكن نزع سلاح “الحزب” أو استيعاب أعضائه. فحتّى الآن وبعد تفتيش ما يزيد على ألف مكان في جنوب الليطاني، ما يزال هناك سلاح وأنفاق لـ”الحزب”: فكيف يستطيع الجيش المضيّ في برنامج النزع أو الضمّ وقد تكون الأماكن التي يجب تفتيشها تبلغ عشرة آلاف موطن أو أكثر. ولذلك على الفرقاء السياسيين أن يفكّروا بهدوء وأن ينصحوا المندوبة الأميركية التي تزورهم بالصبر مع رئيس الجمهورية لكي لا يشتعل الجدال والتأزّم وما نزال في البداية.
العناق أو النّار؟
هناك أمرٌ آخر مختلف بعض الشيء. وليد جنبلاط رسم مشهداً مهولاً تعمد من خلاله إسرائيل إلى تدمير المشرق العربي واحتلاله. وبحسب هذا المنطق لماذا التشدّد في نزع سلاح “الحزب”؟ وليد بيك يعرف أنّ سلاح “الحزب” ما كان ناجحاً في الفتح ولا في الدفاع والردع، وإذا كان الفيلم الذي رسمه قابلاً للتحقّق، فالأكثر جدوى أو معقوليّة تقوية الجيش بقدر الإمكان، بدلاً من الاعتماد على ميليشيا مكسورة “تتبهور” علينا وما عادت تحدّياً لإسرائيل، بل للداخل اللبناني.
لقد قرأت أيضاً لعدّة مراقبين أنّ سلاح “الحزب” يظلّ مفيداً ليس لإرعاب اللبنانيين فقط، بل للتدخّل في سورية كما حاولوا قبل أسابيع، إذا وجدت إيران في ذلك أملاً. فلا فرق يا أستاذ رياض بين العقائديّين والمرتزقة، إنّما هؤلاء يمكن استخدامهم من جهةٍ واحدة.
لذلك كلّه، سيكون علينا أن ننتظر نتائج المفاوضات الأميركية – الإيرانية. فترامب قليل الصبر والوقت لديه مهمّ، وهو إمّا أن يعانق أو يطلق النار. وإذا أطلق النار، وهذا ما لا أُرجّحه، فلن يصيب إيران فقط، بل يصيبنا نحن أيضاً باستهداف إسرائيل لـ”الحزب” بكثافة كما يفعلون باليمن.