بقلم - رضوان السيد
بدا رئيس منظمة الصحة العالمية شديد الأسى في تصريحاته الأخيرة، وحتى بعد بدء تطوير لقاحات ضد وباء «كورونا» من عدة شركات. خلال أزمة «كورونا» الهائلة ما استطاعت منظمة الصحة العالمية استنهاض تضامن عالمي شامل للمواجهة. وقد حال دون ذلك أمران: الصراع الأميركي - الصيني حول منشأ الوباء الذي اتهمت إدارة ترمب الصين به، والأمر الثاني إصرار الدول الكبرى والوسطى جميعاً على العمل على انفراد، وحتى تلك الداخلة في الاتحاد الأوروبي. روح السوق هي التي سيطرت. فالشركات الكبرى، وهي في هذه الأزمة شركات الأدوية، بدت أقوى من الحكومات وتبتزها من أجل تحسين البنى الصحية في كل بلد، وفي الوقت نفسه تبتزها من أجل الدعم المادي في إنتاج اللقاحات. والشركات نفسها تتصارع الآن على الأرباح الأسطورية التي ستجنيها من اللقاحات التي طوَّرتها. ورئيس المنظمة العالمية مهمومٌ الآن بنفي أوهام انتهاء الوباء. ومهمومٌ أيضاً بكيفية حصول الفقراء والمهمشين على اللقاح في أفريقيا وغيرها.
قال البابا فرنسِس في رسالته البابوية الجديدة قبل شهر بعنوان: كلنا إخوة Fratelli Tutti إنّ العالم يعاني من أزمة أخلاقية عميقة، تُهدِّد بضياع الكون. وسببها روح السوق، وتشييء الإنسان، وسيطرة التفكير الأناني والأداتي. وهي الأمور نفسها التي ذكرتْها وثيقة الأخوة الإنسانية التي أصدرها البابا مع شيخ الأزهر بأبوظبي في 4 فبراير (شباط) 2019. الجديد في رسالة البابا الأخيرة استشهاده بالأزمة الساحقة التي أحدثها وباء «كورونا». ففي العادة، ومنذ الحرب العالمية الأولى، كانت الأزمات الصحية أو البيئية الكبرى تظهر فيما صار يُعرف بالدول المتخلفة في أفريقيا وبعض أجزاء آسيا وأميركا اللاتينية. أما وباء «كورونا» فإنه أعاد سيرة الحمى الإسبانية في الحرب العالمية الأولى، من حيث انتشاره في أوروبا، وبقية العالم الغربي المتقدم دونما قدرة على مكافحته لا بالعلم ولا بالسياسة. لقد ناضل الرئيس ترمب طويلاً لإثبات أنّ الوباء ظهر أول ما ظهر في الصين، والصينيون نشروه عمداً أو إهمالاً. لكنّ أحداً لا يدري كم كلّف الوباء الصين حقاً من ضحايا ومضارّ اقتصادية في حين أن هذه الأمور، أي الإصابات والضحايا والانهيارات الاقتصادية كلها ظاهرة وواضحة في الولايات المتحدة وأوروبا، وبخاصة فرنسا وألمانيا وإيطاليا. في عام 1349 اجتاحت الطواعين أوروبا والعالم الإسلامي، وقال الأطباء وقتها وكذلك المؤرخون، وفي العالم الإسلامي وأوروبا إنّ الوباء بدأ في الصين ومنها انتشر! ووقتها قيل إنّ التخلف الطبي والفساد البيئي عند الصينيين هو الذي تسبب في موت الملايين، وربع سكان العالم الإسلامي ونصف سكان أوروبا!
فكرة الاختلال في الحضارة والأخلاق هذه المرة، تُنسَبُ إلى المتقدمين بالموازين العالمية للتقدم: السِلَع والثروات، والتطور التكنولوجي الهائل، والأجيال الجديدة من وسائل الاتصال. وما عاد يمكن نسبة ذلك لدى أهل الثروة والتكنولوجيا إلى القذارة، وعدم وجود المرافق الصحية، ومُدُن الصفيح؛ بل إلى عطلين آخرين ينفرد المتقدمون بهما وينشرونهما في العالم - الضحية الأقلّ تقدماً وقدرات على مقاومة الأوبئة: الاختلال البيئي الذي ينشر الأمراض الكونية الناجمة عن ذاك التقدم غير الإنساني - وسيطرة روح السوق التي لا تأبه لحياة الناس وسلامتهم وسط الصراعات المميتة تنافساً على الموارد والمبيعات والأرباح.
وبالطبع ما كانت مقاربة البابا الأخلاقية هي الأولى في العالم الغربي. ومن دون العودة إلى أوزوالد شبنغلر وكتابه في انحطاط الحضارة الغربية (1913)؛ فإنّ هذه الحقبة في العودة إلى استنهاض قيم وأخلاق المسؤولية بدأت بجون رولز وكتابه: نظرية في العدالة (1971). ومنذ ذلك الكتاب وعلى مدى خمسين عاماً، ظهرت في الفكر الليبرالي مئات المؤلفات، وآلاف المقالات في مناقشة أفكار رولز الخارج على النفعية واقتصاد السوق وعلى قصْر العدالة على «حكم القانون». فالفصل الأول في الكتاب عنوانه: العدالة بوصفها إنصافاً (Fairness وعاد إلى صياغة جديدة للإنصاف في كتابٍ مستقلٍ عام 2001) - أما الفصل الثاني والأكبر في الكتاب الأول فهو في الخير العام Common Good.
العدد الأكبر من الذين ناقشوا Rawls كانوا من الفلاسفة والاقتصاديين واللاهوتيين وفلاسفة الدين والأخلاق. وقد اختار كلٌّ من الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور، واللاهوتي الألماني هانس كينغ أن يقاربا الأمر من زاوية «عودة الدين» باعتبار ذلك ثورة أخلاقية على الفساد المستشري في عالم الإنسان المعاصر. تايلور اعتبر أنّ المطلوب التبصر في إمكانيات العودة إلى مجتمعات التضامُن الإنساني، قبل النوويات والحرب الباردة وعولمة السوق. أما كينغ Küng فذهب في مشروعه لأخلاقٍ عالمية إلى أنه لا سلام في العالم إلاّ بالسلام بين الأديان. ولا سلام بينها إلا بالحوار المُفضي إلى التوافق على أخلاقٍ كونية.
لقد كان السؤال الشاغل للفلاسفة والمفكرين واللاهوتيين الأميركان والأوروبيين: لماذا فقد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) قوته التأثيرية، ولماذا فقدت تكنولوجيا الاتصال والذكاء الصناعي الأصول الأخلاقية للمعرفة والعلم؟ ولماذا أمكن لفكر الهوية العنيف وغير الأخلاقي أن يحظى بالسواد في مجتمعاتٍ ليبرالية وديمقراطية عديدة؟ ثم جاء «كوفيد - 19»، وما ظهر في مواجهته من أنانيات وصراعات، ليثير عاصفة جديدة من التساؤلات التي لا تسهُلُ الإجابة عنها من جانب المفكرين، ومن جانب المسؤولين في المؤسسات الدولية.
لقد استرجعتُ هذه الخاطرات بمناسبة الوباء ولقاحاته والصراع من جانب «المتقدمين» عليهما. وبمناسبة المؤتمر السابع لمنتدى تعزيز السلم بأبوظبي لهذا العام، وقد كان موضوعه: «قيم ما بعد (كورونا)، التضامن وروح رُكّاب السفينة». والمقصود بالسفينة المثل الذي ضربه النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم في حديثٍ مشهورٍ عن المسؤولية: مَثَل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قومٍ استهموا على سفينة... إلخ. السفينة ذات طبقتين. والذين يريدون الوصول للماء من خلال الصعود إلى الطبقة الأولى يفضّلون إحداث خَرق في هيكلها السفلي. ورسول الله يتابع: فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً! الجالسون في الطبقة العليا من «أولي البقية»، كما يقول الشيخ عبد الله بن بيه رئيس منتدى تعزيز السلم ومفتي الإمارات هم المسؤولون عن إنقاذ البشرية أو غرق سفينتها. فقيم ما قبل «كورونا» وما بعدها ينبغي أن تكون قيم التضامن والمسؤولية عن المصائر المشتركة لشعوب العالم: «واتقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة، واعلموا أنّ الله شديد العقاب»