بقلم - رضوان السيد
ما تزال صيغة أو صيغ الدولة الوطنية العربية خارج الجزيرة تُواجهُ تحديات. لكن هذه التحديات تَظهر أكثر في التكوينات الداخلية. منذ زمان هناك حملات على سيطرة الأكثريات بالدواخل، باعتبارها تقمع أو تهضم حقوق الأقليات الدينية أو الإثنية. بيد أن الصيغ الفيدرالية تواجه تحدياتٍ أيضاً لأنها على الدوام تظل مائلةً للانفصال.
ويُرجع المؤرخون السياسيون ذلك إلى مبدأ الرئيس الأميركي وودرو ويلسون: الحق في تقرير المصير. لكنّ هذا المبدأ فُهم على نحوين: النحو الأول إنشاء دول إثنية أو دينية أو محلية جغرافية في مواريث الإمبراطوريات الساقطة في الحرب الأولى مثل النمساوية- الهنغارية، والعثمانية، والروسية. والنحو الثاني: إقامة كيانات ما كانت موجودة من قبل مثل إسرائيل وكثير من الكيانات بأفريقيا، ومحليات إثنية ولغوية في كندا وميانمار. وبالنسبة للنحو الأول ضُرب المثل بالانقسامات الكيانية في منطقة البلقان التي كانت تابعةً إما للنمسا أو للدولة العثمانية. أما الإمبراطورية الروسية فصمدت بالقوة، لكنها عادت فانقسمت إلى دولٍ مستقلةٍ بعد عام 1990.
والواقع أن الحرب الروسية الأوكرانية هي من عقابيل ذلك الانقسام الثاني، مع أن الدول المستقلة بعد عام 1990 تعاني بدورها من انقسامات تصل إلى حدود المطالبة بالانفصال أيضاً. لماذا طرح هذا الموضوع الآن؟ لأن الكيانات العربية بالشام والعراق وليبيا والسودان واليمن تعاني من مشروعات انقسامية، إما لأسباب إثنية أو دينية أو جهوية.
لقد ظلَّ الغَرب (الأوروبي والأميركي) يطرح مسألة الانتخابات الحرة باعتبارها ميزان الشرعية ومقياسها. لكنّ هذا لا يصحُّ دائماً حتى في الدول العريقة ذات البنية القوية. والبنيةُ القويةُ تستند إلى وجود أكثرية تعتبر الدولة دولتها، فينمو إحساسٌ بالغربة لدى الأقليات من أي نوع.
قبل الصراع الحالي في السودان، اتخذ الانقسام طابعاً إثنياً بين العرب والأفارقة، واصطنع العسكر تنظيماً في دار فور ضد الأفارقة المتمردين. وفي ليبيا بعد القذافي، عاد الليبيون للانقسام إلى أقاليم، وقامت حكومتان وجيشان وإدارات، ولولا آبار النفط لصاروا دولاً. وفي العراق، ورغم الدستور المنظّم والانتخابات المتتالية، ما تزال هناك مشكلتان: حكم الأكثرية الشيعية، وعدم اقتناع الأكراد أو عدم اكتفائهم بالحكم الذاتي وشكواهم من سيطرة بغداد على الموارد النفطية. ويُروى الآن عن الرئيس السوري الحالي، أحمد الشرع، أنه لا يريد أن يكون النظام الجديد ديمقراطياً على شاكلة لبنان والعراق، أي ديمقراطية مكوّنات أو طوائف. لكن ما البديل إذن؟
هذه الدول كانت قبل الأنظمة العسكرية والأمنية موحدةً، وتجري فيها انتخابات حرة ولا تشكو من تمرد طائفة أو إثنية، ربما باستثناء التذمر الكردي في العراق، ثم في سوريا.. فما هو الأصلح لاستعادة الوحدة بعد تفاقم المتغيرات نتيجة عقود القمع والقتل والمعاناة؟ هل تكون الفيدرالية هي الأصلح على أن لا تكون طائفية كما هي في العراق ولبنان، مع أنه لا يتمتع بالفيدرالية أو الحكم الذاتي رسمياً في العراق غير الأكراد؟ أم تعود الانتخابات الحرة القائمة على تعددية حزبية تتنافس على السلطة؟ لا تبدو الحلول المذكورة متاحةً أو سهلة بعد المتغيرات العاصفة بسبب الصراعات الداخلية والديكتاتوريات والتدخلات الخارجية. ومَن لا يقدّر تأثيرات التدخلات الخارجية والضلالات الداخلية فليتأمل المشهد اليمني.
الدولة الوطنية ذات الهوية والتنوع هي المخرج من هذا المشهد المقبض خارج الجزيرة بالمشرق أو تظل شعوبنا تعاني إلى ما لا نهاية.