بقلم - إياد أبو شقرا
طبيعي جداً أن تنهمر الإطراءات في الغرب على ميخائيل غورباتشوف، في حين أعلن «رجل الكرملين» القوي فلاديمير بوتين أن «مشاغله» تحول دون مشاركته في مأتم آخر رئيس لما كان يسمى الاتحاد السوفياتي.
بوتين، العازف على نغمة «العزة القومية الروسية» والثأر من إرث غورباتشوف «الاستسلامي»، يجسد اليوم فعلياً النقيض الحي لتجربة الزعيم الراحل.
ولئن كان القادة الغربيون قد تسابقوا خلال اليومين الأخيرين - صدقاً أو نفاقاً - على مدح «منجزات» غورباتشوف و«رؤيته» و«دوره التاريخي» في إنقاذ العالم من غول المواجهة بين الشرق والغرب والانزلاق نحو حرب إفناء متبادل، فإن قراءة أكثر موضوعية وصراحة لسيرة الزعيم الراحل... لا تقيمه بهذا المستوى من الإيجابية.
الرجل قد يكون حسن النية، وربما كان واقعياً في إدراكه استحالة الإبقاء على نظام متصخر... لكنه ليس صاحب رؤية ولا صانع تاريخ.
شخصياً عايشت - عن بُعد طبعاً - بضع محطات مع مسيرة غورباتشوف منذ توليه قيادة الحزب الشيوعي السوفياتي في مارس (آذار) 1985 خلفاً لقسطنطين تشيرنينكو. وهنا أذكر أن تشيرنينكو - بعكس سلفه يوري آندروبوف - ما كان منتظراً منه إلا أن يكون مرحلة انتقالية في حياة الحزب والدولة المترهلين.
لقد عمر ليونيد بريجنيف طويلاً، وتحول من سياسي قوي وواعد، عندما بدأ مسيرته في القمة رئيساً للدولة عام 1960 وحتى 1964 - إبان قيادة نيكيتا خروتشوف للحزب - ثم بين 1977 و1982 إبان فترة قيادته الحزب خلفاً لخروتشوف (بين 1964 و1982)، إلى رمزٍ لشيخوخة الحزب والدولة.
اختيار آندروبوف، رجل الأمن المحنك، خلفاً لبريجنيف عام 1982 كان بحق تطوراً «تغييرياً» ذا أهمية كبرى على مستوى الاتحاد السوفياتي، وكان مؤشراً لنهاية محتملة لحقبة الترهل والركود، إلا أن عهد «التغيير» الموعود لم يطُل، إذ توفي آندروبوف خلال أقل من سنتين في ظروف غامضة، ووقع الاختيار على الباهت المطيع تشيرنينكو وجهاً انتقالياً. وهكذا كان. وحقاً، توفي تشيرنينكو المريض عن 73 سنة بعد نحو سنة من توليه قيادة الحزب، وانتخب محله عام 1985 وجه شاب - نسبياً - من شمال القوقاز اسمه... ميخائيل غورباتشوف (المولود عام 1931).
غورباتشوف كان «محسوباً» على مجموعة آندروبوف... ولذا ارتفعت آمال الطامحين التواقين إلى قيادة ديناميكية متحركة تفهم التعامل مع الغرب، وتجيد التعاطي «البراغماتيكي» مع قيادة أميركية مسنة «دوغماتية» يمثلها الممثل المتقاعد رونالد ريغان.
نظرياً، على الأقل، بدا لبعض الوقت أن المستقبل لصالح ابن السنوات الـ54... لا العجوز الهوليوودي السابق، غير أن الواقع على الأرض كان مختلفاً.
إذ كان ريغان أقرب إلى واجهة ناطقة لـ«مؤسسة» ومنظومة من «كتل الضغط» ومجموعات الأبحاث الغنية العالية التأهيل. وفي المقابل، كانت «ديناميكية» غورباتشوف ومثالياته الساذجة أضعف بكثير من القدرة على تنشيط مؤسسة تنظيمية من زمن آخر، أضعف من هرم سلطة أخفق لفترات طويلة في تجديد دمائه، وعجز عن إنتاج قيادات واعية وحصيفة، وتطوير آليات «اختبار» و«غربلة» و«تنقية» تنتج هذه القيادات بعيداً عن المحسوبية والارتزاق.
لقد كانت «واشنطن اللوبيات» تعرف تماماً ما تريده، بعكس غورباتشوف الذي أمضى حياته داخل حزب توتاليتاري واحد... الشيء الأساسي الذي يعرفه عنه أنه ما عاد قادراً بوضعه الراهن على مجابهة التصعيد الغربي المُعادي سياسياً وأمنياً واقتصادياً.
وسارت واشنطن ريغان قدماً في ابتزاز غورباتشوف، في حين ارتكب الزعيم السوفياتي خطيئتين مميتتين: الأولى إطلاقه مسيرة إصلاحية النية من دون أن يدرك مدى قدرة بلاده على تحمل تداعياتها. والثانية وثوقه المطلق بمظاهر التشجيع ونوبات الثناء على هذه المسيرة.
التنازلات الاستراتيجية التي قدمها غورباتشوف باكراً لريغان أدهشت أحد أقاربي الشيوعيين السابقين، الذي استغرب أمامي أثناء زيارته لندن، سبب «تعجل» غورباتشوف الاستسلام لأكثر قيادات الغرب يمينية وتطرفاً... بدلاً من تقديم تنازلات مدروسة لزعامات معتدلة أصدق نية تجاهه من رونالد ريغان ومارغريت تاتشر.
وجاء حادث تشيرنوبيل عام 1986 وهبوط الطيار الألماني ماثياس روست، الذي طار من فنلندا وحط في قلب موسكو خلال مايو (أيار) عام 1987 من دون أن تعترضه وسائط الدفاع الجوي السوفياتي، مظهرين مخيفين للفوضى والجمود والعجز.
ومرة أخرى، فضل غورباتشوف تسريع التنازلات بدلاً من تنظيمها. وكانت النتيجة البديهية للتنازلات السريعة استفزاز الشيوعيين القدامى، ودفعهم لحركة انقلابية يائسة سرعان ما فشلت.
يوم فشل تلك المحاولة، كنت وخالي نزور صديقاً في دمشق. يومها قُرع باب شقته بقوة ودخل جاره وهو ضابط روسي برتبة عقيد. كان ثملاً ومرتفع الصوت وطلب منا بلا مقدمات الاحتفاء معه بفشل الانقلاب. وأذكر يومها أن خالي قال له: «كلنا نحب لكم الخير، ولكن كيف سيكون موقف أميركا ممن سيحكم روسيا الآن؟». وجاءنا الرد الصاعق «أميركا؟! أي أميركا؟؟... أميركا لا شيء... روسيا أقوى قوة في العالم».
كلام بهذا السخف – ولو كان محدثنا ثملاً – أقنعنا بأن المواطن الروسي لا يعرف عن غريمه العالمي الكبير شيئاً، بل العكس هو الصحيح تماماً. ولقد عززت هذه الواقعة تماماً ما لاحظته عندما بدأت في بدايات «الغلاسنوست» (المكاشفة) جلسات حوارية بين شباب بريطانيين وروس عبر الأقمار الصناعية؛ إذ في حين كان البريطانيون يجادلون بثقة وقوة حتى عندما تكون معلوماتهم خاطئة، كان الروس مترددين محدودي المعلومات، يردون بشعارات ببغائية ولغة خشبية بالكاد تخفي جهلهم عن واقع الغرب.
كانت العلة في الاتحاد السوفياتي السابق أكبر من سذاجة غورباتشوف وقلة حكمته. كانت تراكمات تنظيمية وثقافية منعت لعقود عديدة الانتقال من منطق الثورة إلى منطق الدولة، وشجعت حقبة بعد أخرى على ظهور نماذج متعددة من «حكم الفرد» والسلطة المطلقة.
وبالفعل، لم تعرف روسيا في تاريخها - قبل الاتحاد السوفياتي وبعده - أي شكل من أشكال الديمقراطية؛ إذ تحولت سلطة القياصرة، إلى سلطة قوميسارات الحزب... وها هي اليوم تعود مع فلاديمير بوتين في نموذج ثالث يجمع السلطتين السابقتين في ثالوث «التسلط – الاحتكار– السلاح».
اليوم، أبلغ دليلين على فشل غورباتشوف... أن الاشتراكية تحكم معظم دول القارة الأميركية رغم سقوطها في روسيا، وأن الحرب الأوكرانية نسفت وهم التعايش بين موسكو والغرب.