بقلم - إياد أبو شقرا
نظرياً، من الخطأ القفز إلى استنتاجات سريعة في حادثة مثل إطلاق النار في منطقة العاقبية، بجنوب لبنان، على قافلة لقوة بعثة الأمم المتحدة «اليونيفيل». ولا شك أنَّه من الأفضل انتظار جلاء الصورة عبر تحقيق قضائي جدي في مسألة قابلة للأخذ والرد. إلا أنَّني قلت «نظرياً» لجملة من الأسباب، في طليعتها ما يلي:
- جنوب لبنان منطقة محكومة بـ«قوة الأمر الواقع» -أي حزب الله المدعوم من إيران- وليس من «الدولة اللبنانية»، التي هي غائبة بالفعل إلا ضمن الشكليات والأمور المسموح لها بتوليها، كرفع العلم اللبناني على المباني الرسمية، ووجود شعارات الدولة وأختامها على الأوراق والوثائق المطلوبة لتسيير تلك الشكليات والأمور.
- حزب الله لا يسيطر فقط على جنوب لبنان، بل يتحكّم أيضاً في أهم القرارات السياسية وأخطرها في قلب العاصمة، بدءاً من انتخاب رئيس للجمهورية -عطّله مع حلفائه الصغار لأسابيع عديدة ولا يزال- إلى ترسيم الحدود البرية والبحرية... مروراً بقرارَي الحرب والسلم.
- هيمنة حزب الله المطلقة على لبنان اكتسبت، قبل أكثر بقليل من ست سنوات، شرعية دستورية لا جدال فيها بعدما نجح في فرض مرشحه رئيساً للجمهورية. ثم أمَّن له كتلة نيابية كبيرة الحجم إثر انتخابات برلمانية، فرض الحزب عليها قانونه الانتخابي المفضل. ومن ثم، أجريت تلك الانتخابات في ظل احتفاظه الحصري من دون سائر القوى اللبنانية بسلاحه الميليشياوي.
- مع هذه الهيمنة، لم يكتفِ الحزب عملياً باحتكار التمثيل النيابي للطائفة الشيعية، عبر فوزه بالسواد الأعظم من مقاعد البرلمان في مناطق الكثافة السكانية الشيعية -أي جنوب لبنان وشماله الشرقي وضواحي بيروت الجنوبية- بل بات وحليفه المسيحي (تيار رئيس الجمهورية) يلعبان أيضاً دوراً مؤثراً وضاغطاً على استقلالية السلطة القضائية. والسلطة القضائية، كما هو معروف، سلطة تعتبر مستقلة وبعيدة عن «التسييس» والاستنسابية والكيدية التحزّبية في أي دولة تزعم أنها ديمقراطية وتمارس مبدأ «فصل السلطات».
- آراء قادة حزب الله و«المحللين» والإعلاميين الناطقين باسمه في «اليونيفيل» معروفة لمعظم اللبنانيين، وهي إما «شريك» وغطاء للعدو الإسرائيلي، وإما «أداة» للدول الغربية الكبرى التي فوّضتها. ومن ثم، فإن الموقف العدائي لـ«بيئة الحزب» إزاء القوة الدولية ليس خافياً لكل من يتابع الوضع اللبناني، وبالذات في مناطق عملها. واستطراداً، يجوز القول إن هذا العداء للقوة الدولية -أو على الأقل «التشكيك» في نزاهتها- زُرع على امتداد سنوات في «بيئة الحزب» وقواعده الشعبية، عبر الخُطب والمواعظ والتأبينات والحملات التحريضية الممنهجة.
- يمكن للمرء أن يوجّه لحزب الله أي تهمة باستثناء تهمة السذاجة. والحقيقة أنَّه أذكى من أن يتورّط رسمياً في أي عملية تسجّل عليه، بالتالي يُساءل فيها. فحتى جرائم اغتيال خصومه، التي دأب على إلصاق تهَم تنفيذها إما بـ«العدو الإسرائيلي» وإما «الاستخبارات الغربية»، ما كان يؤشر إلى مسؤوليته السياسية عنها إلا تقديم بعض «الأهالي» المتحمّسين من جمهوره الحلوى احتفاءً بالتخلص من أولئك الخصوم. وعلى الرغم من أن جريمة بحجم اغتيال رفيق الحريري ورفاقه، التي شكّلت من أجلها محكمة دولية -رفض الحزب الاعتراف بها- أدانت رسمياً محازبين له، رأينا الحزب يلصقها بالجهات التي دأبت «خطابياته» تتهم الحريري بالتبعية لها. كذلك، حتى الاغتيالات التي ارتكبت في مناطق «بيئة الحزب» الحاضنة مستهدفةً خصومه السياسيين -مثل الكاتب والمثقف لقمان سليم- أدرجها الحزب ضمن خانة استهدافه والتآمر عليه... مع أن العديد من هؤلاء المُستهدفين كان خطباء الحزب وإعلاميّوه قد أهدروا دماءَهم علانية عبر التضليل والتخوين والتحريض ضدهم قبل اغتيالهم.
- كل الجرائم المكتملة وغير المكتملة -مثل محاولات الاغتيال- ظلت منذ عام 2004، باستثناء اغتيال رفيق الحريري ورفاقه، طي المجهول... بلا محكمة أو محاكمة أو إدانة أو عقوبات؛ وذلك لأنه لا مجالات لمحاكمات عادلة في بلد تحت هيمنة فعلية تبلغ حد الاحتلال، بل إن بعض القضاة المحسوبين صراحةً على أتباع الحزب من المسؤولين تحوّلوا إلى «مدّعين» ناشطين في نسخة لبنانية عصرية لـ«محاكم التفتيش الإسبانية»، وهكذا رأيناهم يهاجمون الساسة ويقتحمون المصارف والشركات الخاصة مزاجياً واستنسابياً مصحوبين بمرافقة مسلحة، بل يتمردون على قرارات رؤسائهم بحجة أن مرجعيتهم أعلى وأكبر نفوذاً.
هذه «المقدمة الخلدونية» الطويلة، في اعتقادي، ضرورية من أجل تسويغ القفز إلى الاستنتاجات السريعة. وهنا علينا ألا نمرّ مرور الكرام على مُفردات تتعمّد تجهيل الفاعل على شاكلة «الأهالي»، وعبارات تسوّق لغايات تخديرية مثل القول إن حزب الله «يقوم بتحقيقات ميدانية»، والتلميحات إلى أن القوة الدولية كانت تتحرك شمالي نهر الليطاني «خارج نطاق عملها»، وكذلك الكلام العائم التافه عن تهدئة؛ «لأنه لا مصلحة لأحد في التصعيد».
إن لُبَّ القضية في مكان آخر. فلبنان مجرّد ساحة موضعية محدودة في «حرب إقليمية» مفتوحة. وللأسف، لا تزال القوى الكبرى ترفض التعامل معها كما هي على حقيقتها، رافضةً ربط أجزائها بمصدر الأزمة وأساسها.
نعم، القوى الكبرى لا تزال تتجاهل أصابع نظام طهران عندما تتعامل مع «عربدات» الحالة الحوثية في اليمن، ضمن إطار يمني محلي أو نزاع داخلي تتداخل فيه العوامل القبلية والمذهبية. ولا تزال تصرُّ على التعامل مع مآسي سوريا منذ سنوات من منطلق «المواجهة الدولية» ضد «داعش»، وكأنما «الإفراز الداعشي» الغريب العجيب ولد قبل عام 2011، عندما بدأ التنكيل والقمع وقتل المدنيين بالرصاص الحي ثم بالسلاح الكيماوي، ثم بالتدخلين الإيراني والروسي.
ثم إنها تقنع نفسها بأن ما «أنجزته» في العراق منذ غزو 2003 كان «انتصاراً مؤزّراً» للديمقراطية وحقوق الإنسان، رغم إقرارها أحياناً ببعض الشوائب والهيمنة الطائفية ونماذج الفساد التي ازدهرت بهمّة العائدين من منفاهم الإيراني بُعيد الغزو.
وطبعاً، أمامنا النموذج الكارثي اللبناني بكل بؤسه. ذلك البلد الذي كان «مركز خدمات» المنطقة ودار نشرها ومدرستها وجامعتها ومستشفاها ومصيفها وواحة حرية الرأي فيها... بات أشلاء كيانٍ بالكاد تسترها أسمال دولة رثّة من نسج طبقة سياسية فاسدة ومفسدة وقصيرة النظر ارتضت الارتهان للاحتلال الميليشياوي الثيوقراطي الإقليمي.
بمعزل عن ربط خيوط التآمر بعضها ببعض والتعامل بحزم مع مصدرها وأساسها... عبثاً نتفاءل بحلول وسلام وعدل واستقرار وعدالة.