المعلّم الأنثروبولوجي يحيى

المعلّم الأنثروبولوجي يحيى

المعلّم الأنثروبولوجي يحيى

 العرب اليوم -

المعلّم الأنثروبولوجي يحيى

بقلم - سوسن الأبطح

لم يكتب يحيى حقي أكثر من قصتين في السنة. مجمل أعماله القصصية الكاملة التي جمعتها دار «نهضة مصر»، بمناسبة الاحتفاء به، كشخصية لمعرض الكتاب، انطوت على 53 قصة ورواية، كتبها على مدار 87 عاماً من عمره المديد. البعض لم يقرأ ليحيى حقي غير «قنديل أم هاشم» التي لم تتجاوز 150 صفحة، ووقف عندها. غير أن يحيى حقي لم ينسَ ولن ينسى. لم يكن بحاجة إلى 500 صفحة ثرثرة في كل مؤلَّف ليثبت حضوره الموسوعي. فضّل أن يكون على الأرض، محفّزاً على حب الموسيقى، وتنمية دور الرقص وأرشفته وكتابته، سعى للرفق بالحيوان، حضّ على الرأفة بالخدم، بادر إلى اقتراح مواضيع دراسات علمية يحتاجها المجتمع، احتضن الأدباء الشباب. حوّل مجلة «المجلة» التي رأس تحريرها إلى منبر للأصوات الجديدة، ومكان للتعريف بالفن التشكيلي. ما الذي لم يفعله يحيى حقي؟ كان بمقدوره أن يصبّ جهده المحموم الذي وزعه سخياً على بسطاء الناس، ثم ضخه في مقالاته التي طالت العمارة، والأوبرا، والسينما، والخرافة، والعلم، فيما يظن أنه أبقى للأديب وخلوده.
يقول عن حكاية «القنديل» إنها «خرجت من قلبي مباشرة كالرصاصة، وربما لهذا السبب استقرت في قلوب القراء بالطريقة نفسها». لذلك يشعر محبو حقي أنه يخاطبهم واحداً واحداً، وكأنه يتمنى لو يزور كلاً منهم في بيته، ويوصل إليه أفكاره، بأبسط أسلوب، وأسلس عبارة، ضارباً عرض الحائط بالبلاغة والتنميق والتزويق. فالرجل كما زملائه الكبار في «حركة المجددين» في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، حفروا بأقلامهم هوية مصر بعد ثورة 1919. كل منهم على طريقته. المجد أتاهم جميعهم من أدوارهم الفذة كمعلمين، وقادة فكر، وبوصلة للشعب. ولا غرابة أن يلحق بهم المصريون والعرب. القارئ يبحث عن الفائدة، والنموذج القدوة، هذا الدور الذي يعتبره البعض اليوم، موضة خلت، من دون أن يسألوا أنفسهم لماذا يشيح القراء بوجوههم عن الرواية العربية، لصالح أليف شافاك، وأورهان باموك، وإيزابيل الليندي، وآخرين.

«كنا نكتب شخصية مصر، كل بعيون اختصاصه، يوم لم يكن يرى فينا الإنجليز سوى ولاية عثمانية تدفع الضرائب»، يقول توفيق الحكيم. فيما يفخر حقي بالسنتين اللتين قضاهما في دمنهور، أول حياته، لأنه هناك تعرف على الفلاحين والحصاد، واشتم رائحة التربة وكتب من وحيها «دماء وطين»، متمنياً لو كان سينمائياً ليصور فيلماً عن النخلة وتشكيلاتها وتلاوينها، ودور السعف في بناء أسقف المنازل. «كان شعوراً بالتحدي، أمام الغرب الذي سبقنا، وكأنه يقول لنا، مهما عملت لن تفعل مثلي». لهذا تعمق لديه الحسّ الأنثروبولوجي، يريد أن يؤرشف لكل ظاهرة، ويجمع عنها المعلومات، ويدرس تطورها. شغلته العصا، التي كانت ترافقه أينما ذهب، وكيف كانت سلاحاً للفراعنة، ومن ثم صارت تتحول وظائفها الاجتماعية، ودلالات استخدامها، إلى أن وصلت إليه.
الوعي العميق بالمسؤولية حرّك طه حسين ليأسف على كتاب واحد فقط لم يتممه هو «الفتنة الكبرى»: «كنت أود أن أكمله بجزء آخر عن تطور الأحزاب الإسلامية بعد ازدهار الترجمة في العصر العباسي؛ حيث قامت ثورات مثل ثورة القرامطة، وثورة الزنج، تطالب بالعدالة والمساواة بين الفقراء والأغنياء، تحت تأثير الأفكار الجديدة». لم يحزن طه حسين على عدم إتمام رائعته «الأيام»، لم يكن في الأصل راغباً في الإغراق بكتابة سيرته الذاتية، بل أن يستفيد مما تبقى له من همّة، لينير للأجيال، ولو ببعض مما يعرف، بتسجيل تاريخ أهمل رغم أهميته المفصلية.
الاحتفاء بيحيى حقي يفتح نافذة على حزمة ضوء تأتينا من بعيد، على جيل رأى في الكلمة وسيلة لخدمة أهله، لوصلهم بأجدادهم، ومساعدتهم على استكشاف الآتي. يحيى حقي المتزوج من فنانة فرنسية، المنفتح على الثقافات، الذي كان يكره الحديث عن أصله التركي، لأنه عربي حتى النخاع، الدبلوماسي المدلل، يفضل ركوب الباص والمترو على السيارة ليبقى ملتصقاً بناسه، يزور مسجد عمر بن الفارض سلطان العاشقين، ليشعر بالخشوع والرهبة بمعيتهم، وأكثر ما يهمه هي تلك العلاقة الوطيدة «بين الأثر والشعب». يصغي حتى الثمالة، يتأمل كي يتمكن من الوصف والنقل الأمين، يعرف أن أولويته هي راحة القارئ، وما الصرف والنحو سوى وسيلة لغايته الكبرى. كلهم من دون استثناء كان هاجسهم التربية، ويحيى حقي، كان له دور في تأسيس مسرح العرائس، ورأي في التنشئة، وفي الاعتماد على الحوار، وبشكل خاص إطلاق «مَلَكات التعبير»، وتحرير الناس من قيود الخوف والتردد.
لم يعتبر يحيى حقي نفسه أديباً، كتب 20 سنة بدون نشر. «تلك كانت هواية. فالاحتراف هو أن ينقطع الإنسان إلى التأليف عن كل وظيفة أخرى». يشعر بالامتنان لمن نشروا له، ومن أتاحوا له إخراج هوايته تلك إلى النور. لكن يحيى حقي بالوظيفة التي أسندت إليه كمدير لمصلحة الفنون عام 1955 وبعد عودته من عمله الدبلوماسي، ثم مستشاراً لدار الكتب، كان رأسه يغلي بالأفكار، وحياته ورشة عمل لا تهدأ. فهو صاحب مشروع معهد السينما العالي، ومع الأوبريت الذي كتبه «يا ليل يا عين» تشكلت نواة فرقة محمد رضا. وكان يسعى لإطلاق مجلة تتخصص بترجمة النصوص الأدبية الطازجة من كل العالم، الحلم الذي لم يتحقق.
هؤلاء كانوا مراجل النهضة التي أجهضت، لكنها لم تمت. مجرد قراءة سيرهم، والعودة إلى مؤلفاتهم، تشعرك أن الجذوة لم تنطفئ وأنهم أحياء يجولون بيننا، يمنحوننا الرغبة في يقظة لاهبة. من قال إن تكريم المستحقين، الصادقين، حين يكون مخلصاً، لا يحصد ثمراً نضيجاً؟!

 

 

arabstoday

GMT 13:05 2024 السبت ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حزب الله بخير

GMT 11:57 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مرحلة دفاع «الدويلة اللبنانيّة» عن «دولة حزب الله»

GMT 11:55 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

هل هذا كل ما يملكه حزب الله ؟؟؟!

GMT 20:31 2024 الجمعة ,13 أيلول / سبتمبر

عشر سنوات على الكيان الحوثي - الإيراني في اليمن

GMT 20:13 2024 الخميس ,12 أيلول / سبتمبر

صدمات انتخابية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المعلّم الأنثروبولوجي يحيى المعلّم الأنثروبولوجي يحيى



هيفا وهبي تعكس الابتكار في عالم الموضة عبر اختيارات الحقائب الصغيرة

القاهرة ـ العرب اليوم
 العرب اليوم - الدانتيل بين الأصالة والحداثة وكيفية تنسيقه في إطلالاتك

GMT 05:59 2025 الأحد ,26 كانون الثاني / يناير

نموذج ذكاء اصطناعي مبتكر لتشخيص أمراض الرئة بدقة عالية
 العرب اليوم - نموذج ذكاء اصطناعي مبتكر لتشخيص أمراض الرئة بدقة عالية

GMT 16:09 2025 السبت ,25 كانون الثاني / يناير

أصالة تكشف تفاصيل ألبومها الجديد باللهجة المصرية
 العرب اليوم - أصالة تكشف تفاصيل ألبومها الجديد باللهجة المصرية

GMT 06:31 2025 الأحد ,26 كانون الثاني / يناير

ثريدز تختبر إعلانات وصور بين المنشورات للمستخدمين
 العرب اليوم - ثريدز تختبر إعلانات وصور بين المنشورات للمستخدمين

GMT 03:25 2025 السبت ,25 كانون الثاني / يناير

جيش الاحتلال يعتزم مواصلة الانتشار جنوبي لبنان

GMT 03:17 2025 السبت ,25 كانون الثاني / يناير

زلزال قوي يهز إثيوبيا بقوة 4.7 ريختر

GMT 03:24 2025 السبت ,25 كانون الثاني / يناير

الحصبة تتفشى في المغرب 25 ألف إصابة و120 وفاة خلال 16 شهرا

GMT 11:32 2025 الجمعة ,24 كانون الثاني / يناير

يسرا اللوزي تتحدّث عن الشخصية التي تتمنى تقديمها

GMT 08:46 2025 الجمعة ,24 كانون الثاني / يناير

في ذكرى صاحب المزرعة

GMT 09:25 2025 الجمعة ,24 كانون الثاني / يناير

ألوان ديكورات 2025 تعيد تعريف الفخامة بجاذبية جريئة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab